إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده
ورسوله..
أمَّا بعدُ:
قال تعالى مبينًا
عداوة شياطين الجن والإنس لأهل الحق من الأنبياء ومن سار على منوالهم في بيان الحق
والتحذير من الباطل وأهله: [وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا
فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] [سورة الأنعام: 112]. وقال تعالى ذِكرُه: [وَكَذَٰلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ
هَادِيًا وَنَصِيرًا] [سورة الفرقان: 31].
فبين الله -عز وجل-
أن الأنبياء لهم أعداء من المجرمين وأن هذه العداوة ظاهرة مستمرة استمرار وجود
دعاة الحق على منهاج النبوة، من السلف والخلف، وبين -سبحانه وتعالى- لعباده
المؤمنين الصادقين أنهم هم المنصورون أن جماعتهم هم الغالبون فقال -عزَّ من قائل-:
[وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] [سورة الصافات: 171-173].
وقال في بيان نُصرته
المرسلين والمؤمنين: [إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ] [سورة غافر: 51].
وبين -تعالى وتقدَّس-
أن ثبات أهل الحق على ما عندهم من الحق والسنة واتباع السلف الصالح سببٌ في نصر
الله لهم فقال -تبارك وتعالى-: [وَلَيَنْصُرَنَّ
الله مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [سورة الحج: 40].
وأخبر المؤمنين أن
نصره قريب وأن بأسه واصل إلى القوم المجرمين حتى ولو ظن المرسلون والمؤمنون أنهم
قد كُذِّبُوا فقال: [حَتَّى إِذَا
اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا
فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين] [سورة يوسف: 110].
ثم أمرهم بالصبر
وعدم الحزن والضيق من مكر هؤلاء المخالفين فقال مواسيًا لأهل الحق ومبشرًا لهم
بمعيته وحفظه إذا هم صبروا على الأذى: [وَاصْبِرْ وَمَا
صَبْرُكَ إِلَّا بِالله وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ] [سورة النحل: 127-
128].
وبيَّن -عز وجل- عقوبة
هذا الصنف من أهل البدع والأهواء ممن ينتقم لنفسه ويتعصب لرأيه فيؤذي دُعاة السنة
والتوحيد فقال: [سَيُصِيبُ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ] [سورة الأنعام: 124].
ثم إن لكل قوم من هؤلاء وارث فأهل السنة ودعاتها ورثة الأنبياء والسلف
الصالحين، وأهل البدع والأهواء ورثة أئمة الكفر والمنافقين الذين يدخل فيهم أهل
البدع والأهواء المنحرفون عن سبيل السلف الصالحين.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في «مدارج السالكين»: «ولكن ليس هذا
الوارث كذاك الوارث ولا يستوي من موروثه الرسول ﷺ ومن موروثهم المنافقون» اهـ.
ولما قام أهل السنة الموحدون ببيان عوار المناهج المنحرفة عن الدين
وقاموا بالواجب الكفائي في بيان مقالات المنحرفين عن السبيل والسنة انبرى شياطين
الإنس والجن للنيل من أهل الحق وإيصال الأذى لهم واستعمال الوشايات لدى السلاطين
لقمعهم، حتى بلغوا من الدناوة وانعدام المروَّة مبلغًا جعلهم يستطيلوا بالضرب
والتهديد والوعيد بالسجن، وتمادى بعضهم فاستمرأ الكذب عند السلطان ليُسكت العلماء
والدعاة عن بيان الحق ونصيحة الخلق، وقد ادعى بعض أهل البدع أن الهروي -رحمه الله-
يعبد صنمًا ليغيظ قلب السلطان عليه ويقتله!
ذكر الحافظ الذهبي في كتابه «تذكرة الحفاظ» قصة وشاية أهل البدع بأبي
إسماعيل الهروي الأنصاري فقال:
«وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان (ألب أرسلان) هراة في بعض
قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه ودخلوا على أبي إسماعيل [يعني الهروي] وسلموا
عليه وقالوا: ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه فأحببنا أن نبدأ
بالسلام عليك، وكانوا قد تواطئوا على أن حملوا معهم ((صنمًا من نحاس صغيرًا وجعلوه
في المحراب تحت سجادة الشيخ))!! وخرجوا، وقام إلى خلوته.
ودخلوا على السلطان
واستغاثوا من (الأنصاري) وأنه (مُجسم)! وأنه يترك في محرابه صنمًا يزعم أن الله
على صورته!! إن بعث الآنَ السلطانُ يجده؛ فعظُم ذلك على السلطان وبعث غلامًا ومعه
جماعة فدخلوا الدار وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم. ورجع الغلام بالصنم فبعث السلطان
من أحضر (الأنصاري)، فأتى فرأى الصنم والعلماء، والسلطان قد اشتد غضبه؛ فقال
السلطان له: ما هذا؟
قال: هذا صنم يُعمل
من الصفر=(أي: النحاس) شبه اللعبة؛ قال: لست عن ذا أسألك؟
قال: فعم يسألني
السلطان؟
قال: إن هؤلاء
يزعمون أنك تعبد هذا، وأنك تقول: إن الله على صورته!
فقال الأنصاري بصولة
وصوت جهوري: سبحانك هذا بهتان عظيم!!
فوقع في قلب السلطان
أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأُخرج إلى داره مكرمًا، وقال لهم: اصدقوني، وهددهم.
فقالوا: نحن في يد
هذا الرجل في بلية من استيلائه علينا بالعامة، فأردنا أن نقطع شره عنا.
فأمر بهم ووكل بكل
واحد منهم وصادرهم وأهانهم» اهـ.
قال أبو موسى:
الله أكبر! انظر
يرحمك الله كيف أن فعلهم هذا والذي كان من الممكن أن يُقتل بسببه، كان الحامل لهم
عليه أن هذا الإمام قد اتبعه العامة على مذهبه ونفَّرَ عنهم الأتباع فأرادوا أن
يكفوا شره عن أنفسهم وعن أتباعهم فقاموا بهذه الوشاية الرخيصة، ولكن الله قد أنجز
وعده للمؤمنين الصابرين المحتسبين في الحق فآل على الوشاء بالإهانة والخذلان.
وأهل الأهواء في كل
زمان يتوارثون هذه الطريقة في رد الحق فتارة بالتهويش وتارة بالكذب على أهل السنة
وإلصاق التهم الكاذبة بهم، وتارة بالتهديد، وتارة بالضرب، وهم يصدُق عليهم قول
ربنا -تبارك وتعالى-: [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] [سورة الأنعام: 124].
قال قتادة كما في: «تفسير ابن أبي حاتم»:
«كَذَلِكَ أَهْلُ
الْبَاطِلِ مُخْتَلِفَةٌ شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُمْ، مَخْتَلِفَةٌ
أَعْمَالُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ كَمَثَلِ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».
قال الشربيني في «السراج
المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير»:
«[وَقُلُوبُهُمْ
شَتَّى] أي: متفرقة أشدّ
افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل
كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب. قال
القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل،
ومقتض لتجاسر العدو».
قال أبو موسى:
فأعداء السنن وأعداء أهل الحديث والأثر -الطائفة المنصورة- على الدوام شديدون
في العداوة لأهل السنة مجتمعون عليها متحالفون في إنفاذها، وهم مع اختلافهم في المشارب
إلا أنهم مُحتقرون لهم مستخفون بهم يقولون: ليس عندهم فهم، وليس يملكون العقل، أهل
جمود وتخلف وغباء، وهم والله من هذه التهم -الحقيرة- بُرآء!
قال الإمام الصابوني في «اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث»: «وعلامات
البدع على أهلها بادية ظاهرة ، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدةُ معاداتهم لحَمَلَة
أخبار النبي صلى الله عليه وسلم واحتقارهم لهم واستخفافهم بهم».
وقد بين علماؤنا الأفذاذ كما بين سلفنا النجباء علامات هؤلاء المنحرفين
عن جادة الصواب وبينوا أن اعتداء أسافل المبتدعة بإرسالهم لمن يؤذي الدعاة إلى
منهاج النبوة بالقول أو الفعل، واللجوء إلى السلطان ليعينهم على إسكات صوت الحق هو
من أعمال الجاهلية الجهلاء، وقد بين هذه الخصال شيخ الإسلام في زماننا الإمام محمد
بن عبدالوهاب التميمي النجدي -رحمه الله تعالى- في كتابه «مسائل الجاهلية» إذ قال
في المسألة الثانية والستون: «إذا غُلِبوا -أي أهل الأهواء والبدع- بالحجة فزعوا
إلى السيف والشكوى إلى الملوك، ودعوى احتقار السلطان، وتحويل الرعية عن دينه، قال
تعالى: [أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأرْضِ][سورة الأعراف: ١٢٧]».
قال الألوسي في شرحه على مسائل الجاهلية:
«كَونهُمْ إذا غُلِبوا بِالحجَّةِ، فَزِعوا إلى السَّيفِ والشَّكْوى إلى
المُلوكِ، وَدَعْوى احْتِقارِ السّلْطانِ، وَتَحْويلِ الرَّعِيَّةِ عَنْ دِيْنِهِ.
قال تَعالى في سورةِ [الأعراف: 127] : [أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ] فانظُرْ إلى شَكْوى آلِ فِرْعونَ وَقَومِهِ
إِلَيْهِ، وَتَحْريشِهمْ إيَّاهُ عَلَى مُقاتَلَةِ موسى -عليه السلام-
وَتَهْييجِه، وَمَا ذُكِرَ في آخِرِ الآية مِن احْتِقارِ ما كانوا عَلَيْهِ» اهـ.
والحوادث من هذا
القبيل كثيرة جدًا ويطول سردها، وهي مبسوطة في كتب التراجم -خاصة تراجم علماء
السلف- كالذي حصل من البلاء بسبب أهل الأهواء للإمام المبجل أحمد بن حنبل ولشيخ
الإسلام ابن تيمية وكالذي حصل للشيخ الألباني وللشيخ أحمد النجمي ولغيرهم من أهل
العلم -رحم الله الجميع-، فقد كان أهل الأهواء والبدع في كل مرة إذا أعجزهم أهل
الحق وغلبوهم يفزعون إلى هذه التصرفات الوضيعة لما يرونه من تأثر الناس بكلام أهل
الحق، ولأن العامة إذا رأوا ثبات العلماء وسمعوا ما عندهم من الحق -بدلائله- ولمسوا
إخلاصهم في البيان والنصيحة زال ما في قلوبهم من تعظيم لأهل التحزب والأهواء
المنحرفين عن السنة، ولذلك تجد الحزبيين في زماننا قد ورثوا أفعال سلفهم من أهل البدع
فيُشوِّشون على الناس ليصرفوهم عن سماع الحق بدعوى التعصب والغلو والإسقاط
والتبديع والتجديع وغيرها من التهم الباطلة الداحضة، فأروني رجلًا انتقد منتسبًا
إلى العلم ولم يأت بالدليل من قوله أو كتابته أو أُلفته لأهل البدع لنجعل قوله هذا
تحت أقدامنا، أما من يأتي بالدليل ويبين موضع الخطأ أو الانحراف فعلى الرأس والعين
ولو كان المُنتقد هذا أكبر أشياخنا وأعلم أهل الأرض فواجب المؤمن أن يقبل هذا الحق
وينبه عليه الخلق ويطرح عنه سواليف النسوان من الاتهام بالغلو والتبديع بدل الحجة
والبيان؛ فالحق أحق أن يُتبع، قال الإمام الهُمام ابن القيم -رحمه الله-:
«إن كنتم فحولًا
فابرزوا ... ودعوا الشكاوي حيلة النسوان
وإذا اشتكيتم
فاجعلوا الشكوى إلــــ ... ــــــــى الوحيين لا القاضي ولا السلطان»!
فاثبتوا إخواني أهل السنة على الحق فإنكم -والله!- منصورون وأعداؤكم
مخذولون مغلوبون، والحق عليه نور والباطل تغشاه الظلمة ولو زخرفه المزخرفون،
والباطل مردود من كل أحد -إنس أو جان- والحق مقبول على كل أحد ولو كان أصغر إنسان،
فلا يهولنكم إخوتي وشاية الوشاة ولا تهديد السفلة الأوغاد فالله ناصرٌ دينه ومظهره
على الدين كله فـ [إِنَّ اللَّهَ لَا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ][سورة يونس: 82].
وكتب متواصيًا بالحق
ومتواصيًا بالصبر
أبو موسى أحمد بن عيَّاش
بن موسى الغرايبة
غفر الله له
ولوالديه وللمسلمين
آمين .. آمين
لثمانية بقين من شهر
ذي القعدة الحرام سنة 1446هـ
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
الأردن – صانه الله
من الشرور والفتن!