..:: [ الكذب ] ::..
الكذب لغة:
مصدر قولهم: كَذَبَ يَكْذِبُ، وهو مأخوذ من مادة (ك ذ ب) التي تدل على
خلاف الصدق، والكذب كما يعرفه ابن فارس: «أنه لا يبلغ نهاية الكلام في
الصدق».
والكذب، خلاف الصدق، يقال كذب كذبا، وكذَّبت فلانًا: نسبته إلى الكذب،
وأَكْذَبْتَهُ؛ وجدته كاذبًا. وكذب الرجل: أخبر بالكذب.
وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ، قال
الأخطل:
«كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا»
ويأتي الكذب بمعنى الجبن عن الثبات في الحرب. وبمعنى: معاريض الكلام
والتورية([i]).
والكذب اصطلاحًا كما يعرفه الجرجاني في «التعريفات: (ص183)»: «كذب الخبر: عدم مطابقته للواقع. وقيل هو إخبار لا على ما عليه المخبر
عنه».
وقال ابن حجر في « الفتح » (6/ 242): «الكذب: هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدًا أم
خطأً».
وقد قيل عن الكذب: هو قبيح لعينه، وقيل: لما يتعلق به من المضار الخاصة؛
لأن شيئًا من الأقوال والأفعال لا يحسن لذاته ولا يقبح لذاته([ii]).
وقال الكفوي في «الكليات»: «الكذب: إخبار عن المخبر به على خلاف ما هو به مع العلم بأنه كذلك، وقيل:
عدم المطابقة لما في نفس الأمر مطلقًا... قال: وليس كذلك، بل هو عدم المطابقة عمَّا
من شأنه أن يطابق لما في نفس الأمر » .
وقد يكون الكذب بالأفعال كما هو في الأقوال ومن ذلك أن تفعل فعلًا توهم
به حدوث أمر لم يحدث حقيقة كأن تكذب على صغير أو دابَّة وكله داخل في معنى
الكذب.
ومن دواعي الكذب التي يكذب لأجلها الكاذبون:
يقول الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص: 263):
«وَأَمَّا دَوَاعِي الْكَذِبِ فَمِنْهَا:
1-
اجْتِلَابُ النَّفْعِ وَاسْتِدْفَاعُ الضُّرِّ، فَيَرَى أَنَّ الْكَذِبَ
أَسْلَمُ وَأَغْنَمُ فَيُرَخِّصُ لِنَفْسِهِ فِيهِ اغْتِرَارًا بِالْخُدَعِ،
وَاسْتِشْفَافًا لِلطَّمَعِ. وَرُبَّمَا كَانَ الْكَذِبُ أَبْعَدَ لِمَا يُؤَمِّلُ
وَأَقْرَبَ لِمَا يَخَافُ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَالشَّرَّ لَا
يَصِيرُ خَيْرًا. وَلَيْسَ يُجْنَى مِنْ الشَّوْكِ الْعِنَبُ وَلَا مِنْ الْكَرْمِ
الْحَنْظَلُ..
2-
وَمِنْهَا: أَنْ يُؤْثِرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُهُ مُسْتَعْذَبًا
وَكَلَامُهُ مُسْتَظْرَفًا، فَلَا يَجِدُ صِدْقًا يُعْذَبُ وَلَا حَدِيثًا
يُسْتَظْرَفُ، فَيَسْتَحْلِي الْكَذِبَ الَّذِي لَيْسَتْ غَرَائِبُهُ مَعُوزَةً،
وَلَا ظَرَائِفُهُ مُعْجِزَةً. وَهَذَا النَّوْعُ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّا قَبْلُ؛
لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ. وَقَدْ قَالَ
الْجَاحِظُ: لَمْ يَكْذِبْ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا لِصِغَرِ قَدْرِ نَفْسِهِ
عِنْدَهُ.
3-
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ دَوَاعِي الْكَذِبِ قَدْ تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ
حَتَّى أَلِفَهَا، فَصَارَ الْكَذِبُ لَهُ عَادَةً، وَنَفْسُهُ إلَيْهِ
مُنْقَادَةٌ، حَتَّى لَوْ رَامَ مُجَانَبَةَ الْكَذِبِ عَسِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
الْعَادَةَ طَبْعٌ ثَانٍ. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ اسْتَحْلَى رَضَاعَ
الْكَذِبِ عَسِرَ فِطَامُهُ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَا يَلْزَمُ
الْكَذَّابَ شَيْءٌ إلَّا غَلَبَ عَلَيْهِ.
4-
حب الترأس، وذلك أن الكاذب يرى له فضلا على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبه
بالعالم الفاضل في ذلك.
وأما أمارات الكذب فمنها:
1-
أنك إذا لقنته الحديث تلقنه، ولم يكن بين ما لقنته (إياه) وبين ما أورده
فرق عنده، أي أنه يخلط بين ما سمعه منك وما اخترعه من عنده.
2-
أنك إذا شككته في الحديث تشكك حتى يكاد يرجع فيه.
3-
أنك إذا رددت عليه قوله حُصر وارتبك، ولم يكن عنده نصرة المحتجين ولا
برهان الصادقين.
4-
ما يظهر عليه من ريبة الكذابين، ولذلك قال بعض الحكماء «الوجوه مرايا، تريك أسرار البرايا» وإذا اتسم بالكذب، نسبت إليه شوارد الكذب المجهولة (أي الشائعات وما في
حكمها) وأضيفت إلى أكاذيبه زيادات مفتعلة، حتى يصير هذا الكاذب مكذوبًا عليه فيجمع
بين معرة الكذب منه، ومضرة الكذب عليه.
وقد وردت جملة كبيرة من الأحاديث في ذم الكذب وأهله نذكر منها على سبيل
المثال لا الحصر:
من ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله
عليه وسلم، قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ
أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».
وأخرجا عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ
فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى
يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ
غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».
وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنَّه
قال:
«لأن يضعني الصدق- وقلَّما يضع- أَحب إليَّ من أن يرفعني الكذب، وقلَّما
يفعل».
وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: «إذا حدثتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأن أَخِرَّ من السماء
أحب إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب
خدعة».
وقال ابن مفلح في « الآداب الشرعية والمنح المرعية » (1/ 18):
« قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا: «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ
فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا».
وقال مسعر بن كدام يوصي ابنه كدامًا:
«إني منحتك يا كدام وصيتي ... فاسمع لقول أب عليك
شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما ... خلقان لا أرضاهما
لصديق
إني بلوتهما فلم أحمدهما ... لمجاور جارا ولا
لرفيق
والجهل يزري بالفتى وعمومه ... وعروقه في الناس أي عروق».
وفي «الفتح» (1/ 135): «قال إبراهيم التيمي: «ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كاذبًا».
وقال أبو عبد الله الإمام أحمد: «الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل».
وقال الذهبي في «الميزان» : «يطبع المسلم على الخصال كلها إلا الخيانة والكذب» .
وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى في «الفوائد»: «إياك والكذب؛ فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك
تصويرها وتعليمها للناس» .
وقال- رحمه الله- : «فإن الكاذب يصور المعدوم موجودًا والموجود معدومًا. والحق باطلًا،
والباطل حقًّا، والخير شرًّا والشر خيرًا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم
يصور ذلك في نفس المخاطَب».
وقال –أيضًا- : «ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه
وسلم-».
وقال أيضًا- رحمه الله- : «إن أول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح
فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد
ويترامى داؤه إلى الهلكة».
وقال بعض الشعراء:
«وما شيء إذا فكرت فيه ... بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير فيه ... وأبعد بالبهاء من الرجال».
وللكذب مضار منها:
(1) الكذب وسيلة لدمار صاحبه أُمَمَا وأفرادًا.
(2) الكذب قد يؤدي بصاحبه إلى النار.
(3) الكذب سراب يقرب البعيد ويبعد القريب.
(4) الكذب يذهب المروءة والجمال والبهاء.
(5) الكذاب لص يسرق العقل كما يسرق اللص المال
(6) الكاذب مهان ذليل.
(7) الأمم التي كذبت الرسل لاقت مصيرها من الدمار
والهلاك.
(8) يورث فساد الدين والدنيا.
(9) دليل على خسة النفس ودناءتها.
(10) احتقار الناس له وبعدهم عنه.
(11) يمقت نفسه بنفسه ويحتقرها.
نسأل الله أن يعيذنا من الكذب وأهله، وأن يجعلنا من أهل الصدق والتقوى،
وأن يغفر لنا ما كان مِنَّا من الكذب متعمَّدًا أو خطأً، والمعصوم من عصمه
الله.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
وكتب:
ليلة الثامن عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمئة وألف من
الهجرة
أبو موسى الأردني
أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة
-غفر الله له ولوالديه-
آمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق