15/09/2024

تعيين يوم مولد الرسول ﷺ .. نظرة تاريخية!

 لا يمكن تعيين اليوم الذي ولد فيه النبي ﷺ على التأكيد لأن العرب قبل الإسلام كانت تُنسئُ=(تؤجل) الشهور بحسب أهوائها، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": "وقال الخطابي كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقديم والتأخير لأسباب تعرض لهم..
فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل
فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان وعاد الأمر إلى أصله فاتفق وقوع حجة النبي ﷺ عند ذلك".
وقد جاء في رجوع الأشهر إلى نظامها الأول ما في الصحيحين أن النبي ﷺ قال في حجة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
قال النووي: وأما قوله ﷺ: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"؛ قال العلماء: معناه: أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم ﷺ في تحريم الأشهر الحرم وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السماوات والأرض. وقال أبو عبيد كانوا ينسئون أي يؤخرون وهو الذي قال الله تعالى فيه: إنما النسيء زيادة في الكفر. فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه" انتهى.
وقال الحافظ في "الفتح": "ووقع في حديث ابن عمر عند ابن مردويه أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض.. فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وبطل النسيء" انتهى.
هذا وقد كتبتُ قديمًا أن أهل السِّير اختلفوا في يوم ولادته ﷺ على عدة أقوال؟!
فمنهم من قال:
ولد لليلتين خلتا من ربيع الأول (2 ربيع الأول).
ومنهم من قال:
ولد لثمانية خلت من ربيع الأول (8 ربيع الأول).
ومنهم من قال:
لتسع خلون من ربيع الأول (9 ربيع الأول).
ومنهم من قال:
لثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول (12 ربيع الأول).
قال أبو موسى:
فإذا كانت الشهور تتغير وتتبدل بحسب أهواء الكفار قبل الإسلام فمن الذي يستطيع أن يجزم بيوم ولادته ﷺ بأبي هو وأمي، فالتاريخ غير ثابت ولا موافق للواقع فربيع الأول قد يكون سنة مولده ذا القعدة أو صفر أو غيره من الشهور، وقد تبين لك أن الزمان ما استدار وعاد إلى وضعه الطبيعي إلا في حجة وداع النبي ﷺ السنة العاشرة من الهجرة، ولذلك اتفق العلماء بلا مُخالف في يوم وفاته ﷺ يوم أن أظلمت الدنيا كلها ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون!
أما اتخاذ يوم مولده ﷺ -الذي لا يمكن لأحد تحديده بالضبط لما تقدم- فقد بين شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أمره والغرض من اتخاذه فقال في "اقتضاء الصراط المستقيم":
"وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدًا محدثٌ لا أصل له، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم-مَنِ اتخذ ذلك اليوم عيدًا، حتى يحدث فيه أعمالًا. إذ الأعياد شريعة من الشرائع، فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع. وللنبي ﷺ خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة: مثل يوم بدر، وحنين، والخندق، وفتح مكة، ووقت هجرته، ودخوله المدينة، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين. ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا. وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا، أو اليهود، وإنما العيد شريعة، فما شرعه الله اتبع. وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه. وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبةً للنبي ﷺ، وتعظيمًا، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع- من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده-".
ثم بيَّن -رحمه الله- أن اتخاذ هذا اليوم مُحدث لا أصل له وأن السلف لم يفعلوه مع قيام المقتضي لذلك وأنهم أحرص منا وأشد تعظيمًا له ﷺ فقال:
"فإن هذا لم يفعله السَّلَفُ، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضا، أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان".
ومن أراد الاحتفال الحق بمولد سيد الخلق ﷺ فليس هذا طريقه ولا هذه سبيله.
فحب الرسول ﷺ ليس احتفالات مبتدعة في يوم مولده، ولكن حبه ﷺ في اتباع سنته! فمن ادعى حبه وخالف سنته فهو كذّاب!!
أخرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله: ما تقول في صوم يوم الإثنين؟
قال: «ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه، وأُنزل القرآن عليَّ فيه».
فهذا هو الاحتفال الحق بمولد سيد الخلق ﷺ، بصوم يوم الإثنين شكرًا لله على أن خلق هذا الرسول الكريم وجعلنا من أمته، وعلى أن أنزل عليه كلامه العظيم ليكون هداية للناس وإمامًا، أما ابتداع احتفالات ما فعلها ﷺ ولا خلفاؤه الأربعة ولا صحابته المرضيون ولا العلماء التابعون، فليس من دين الله في شيء وقد كمَّل الدين وأتم النعمة على المسلمين فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً﴾، فما لم يكن زمانهم دينًا فلن يكون اليوم دينًا كما قال الإمام مالك -رحمه الله-، فخير الهدى هدى محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة!
وكتب تواصيًا بالحق وتواصيًا بالصبر
أحمد بن طريف أبو موسى الغرايبة
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين بالصلاة على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
12 / 3 / 1446هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق