« المقام المحمود »
قول أئمَّة السَّلف -رحمهم الله- في تفسير المقام المحمود المذكور في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا}[الإسراء:٧٩].
الحمد لله مكرم الناس ببعثة أفضل الخلق، صاحب الشفاعة والمقام المحمود، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهداه، ومن أثبت له ما يليق بشخصه الشريف من المكرمات والفضائل مما حباه به الله..
أمَّا بعدُ:
قال الإمام ابن جرير الطبري : في «تفسيره» لقول الله تعالى في سورة الإسراء: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا}[الإسراء:٧٩]، بعد أن ساق أقوال أهل التأويل في معنى المقام المحمود وأنَّ منهم من فسَّره بالشفاعة للخلق يوم المحشر، وهو الذي ذهب إليه الإمام ابن جرير : ، حيث قال:
«وهذا .. هو الصحيح من القول في تأويل قوله{عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا}[الإسراء:٧٩]، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله ، وأصحابه والتَّابعين ».
ولكنَّه : بيَّن أن القول الآخر غيرُ مدفوعٍ صِحَّتُهُ، لا من جهة النظرِ ولا من جهةِ خَبَرٍ صحيح، وهو ما قاله وذهب إليه مجاهدٌ : وجماعة من السَّلف من أنَّ المعنى إنَّما هو :الإقعاد على العرش، فقال:
«فإنَّ ما قاله مجاهد من أنَّ الله يُقعد محمَّدًا على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنَّه لا خبر عن رسول الله ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التَّابعين بإحالة ذلك»اهـ.
قلتُ:
ثمَّ ساق : مذاهب أهل الإسلام في معنى بينونة الله -سبحانه وتعالى- من خلقه وأن أهل الإسلام في ذلك على ثلاثة مذاهب أُلَخِّصها فيما يلي:
ففرقة قالت: إنَّ الله -عز وجل- بائن من الخلق قبل خلقه لهم وبعد خلقه لهم، لا يكون مماسًّا لشيءٍ منها أبدًا.
وقالت أخرى: إنَّ الله -سبحانه وتعالى- كان قبل خلقهِ الأشياء لا مماسًّا لها ولا مباينًا لها وهو كذلك بعد خلقه الأشياء، لا مماسًّا لها ولا مباينًا لها.
وقالت الثالثة: إنَّ الله -تبارك وتعالى- كان قبل خلقه الأشياء، لا شيء يُماسُّهُ ولا شيء يُباينه فخلق الأشياء فماسَّ منها ما شاء، وباين منها ما شاء.
وعلى قول كل فرقة من المذكورة آنفًا يكون سواء إقعادُ النَّبي ﷺ على العرش أو على الأرض.
وقرر الإمام ابن جرير : في نهاية كلامه أن هذه الأقوال الثلاثة ليس في واحدٍ منها ما يمنع ما قاله مجاهد : من أنَّ المقام المحمود الذي وُعِدَ به النَّبي ﷺ هو الإقعاد على العرش.
ويظهر بهذا القول أنْ لا موجب للإنكار على من يقول بهذا القول أبدًا، وسأنقل فيما يأتي من الكلام ما قرره أئمَّة السلف ونزعوا إليه من تصحيحهم حديث مجاهد والقول بما فيه من إثبات هذه الفضيلة للنَّبي ﷺ، والله المستعان.
أخرج الإمام أبو بكر ابن أبي عاصم في «السُّنَّة» عن عبدالله بن سلام قال: «إذا كان يوم القيامة جيء بنبيِّكم فَأُقْعِد بين يدي الله تبارك وتعالى على كرسيِّه».
وكذلك أخرج هذا الأثر أبو بكر الخلال في كتاب «السُّنَّة» في باب ذكر المقام المحمود، وساق الحديث بأكثر من إسناد عن عبدالله بن سلام، ثُمَّ أخرج : بإسناده عن مجاهد قال: {عَسَى رَبُّكَ أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَامًا مَحْمُوْدًا}[الإسراء:٧٩] يُجْلِسُهُ على العرش.وذكر بعدها عِدَّة روايات عنه، فيها:
- يُجلسه معه على العرش، ويقعده على العرش.
ثُمَّ قال الخلال رحمه الله:
«فسمعت محمَّد بن أحمد بن واصل قال: من ردَّ حديث مجاهد فهو جهمي».
ثمَّ قال :
«وسمعت أبا داود يقول: من أنكر هذا فهو عندنا متهم. وقال: ما زال الناس يحدثون بهذا يريدون مغايظة الجهمية؛ وذلك أن الجهمية ينكرون أن على العرش شيء.
وأخبرنا أبو داود قال ثنا القعنبي قال ثنا مالك قال قال رجل ما كنتَ لاعبًا به فلا تلعبن بدينك».
وقال :: «قال أبو بكر بن أبي طالب: من رده -يعني حديث مجاهد- فقد رد على الله عز وجل ومن كذب بفضيلة النبي ﷺ فقد كفر بالله العظيم.
وأخبرني أحمد بن أصرم المزني بهذا الحديث وقال: من رد هذا فهو متهم على الله ورسوله وهو عندنا كافر، وزعم أن من قال بهذا فهو ثنوي فقد زعم أن العلماء والتابعين ثنويه ومن قال بهذا فهو زنديق يقتل».
ثمَّ قال الخلال: :
«وأخبرني محمد بن عبدوس والحسن بن صالح وبعضهما أتم من بعض قالا: ثنا أبو بكر المروذي قال: قال أبوبكر بن حماد المقري: من ذكرت عنده هذه الأحاديث فسكت فهو متهم على الإسلام فكيف من طعن فيها ؟!
وقال أبو جعفر الدقيقي: من ردَّها فهو عندنا جهمي، وحكم من ردَّ هذا أن يُتَّقَا.
وقال عباس الدوري: لا يرد هذا إلا متهم.
وقال إسحاق بن راهويه: الإيمان بهذا الحديث والتسليم له.
وقال إسحاق لأبي علي القوهستاني: من رد هذا الحديث فهو جهمي.
وقال عبدالوهاب الوراق للذي رد فضيلة النبي يقعده على العرش فهو متهم على الإسلام.
وقال إبراهيم الأصبهاني: هذا الحديث حدث به العلماء منذ ستين ومائة سنة، ولا يرده إلا أهل البدع، قال: وسألت حمدان بن علي عن هذا الحديث فقال: كتبته منذ خمسين سنة وما رأيت أحدًا يرده إلا أهل البدع.
وقال إبراهيم الحربي: حدثنا هارون بن معروف: وما ينكر هذا إلا أهل البدع».
قال هارون بن معروف: هذا حديث يُسَخِّنُ الله به أعين الزنادقة، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل السُّلمي يقول: من توهم أنَّ محمدًا لم يستوجب من الله عز و جل ما قال مجاهد؛ فهو كافر بالله العظيم، قال :وسمعت أبا عبدالله الخفاف يقول: سمعت محمد بن مصعب -يعني العابد- يقول: نعم يقعده على العرش ليرى الخلائق منزلته».
ثمَّ أورد : إسنادًا آخر فيه هذه القصة وزاد فيه:
«ثم يصرفه إلى أزواحه وكرامته .
وعن ابن مصعب قال: يجلسه على العرش ليرى الخلائق كرامته عليه ثم ينزل النبي إلى أزواجه وجناته».
ونقل الخلال بإسناده عن إبراهيم الزهري قال: «سمعت هارون بن معروف يقول: ليس ينكر حديث ابن فضيل عن ليث عن مجاهد إلا الجهمية.
وسمعت أبا بكر بن صدقة يقول: قال إبراهيم الحربي يومًا -وذكر حديث ليث عن مجاهد- فجعل يقول هذا حدَّث به عثمان بن أبي شيبة في المجلس على رؤوس الناس فكم ترى كان في المجلس؟ عشرين ألفا؟ فترى لو أن إنسانًا قام إلى عثمان فقال: لا تحدث بهذا الحديث أو أظهر إنكاره، تراه كان يخرج من ثَمَّ إلا وقد قتل؟!
قال أبو بكر بن صدقة: وصدق ما حكمه عندي إلا القتل».
ثم ذكر الخلال أقوال الأئمة في ليث -راوي الحديث عن مجاهد- وأنه غير متهم بالبدعة، وذكر أقوالهم في مجاهد إلى أن ذكر أنه قرأ كتاب «السنة» بطرسوس مرَّات عديدة في سنوات عديدة، حتى بلغه أن قومًا أنكروا حديث المقام المحمود -يعني حديث مجاهد-وأنَّهم ردُّوا فضيلة رسول الله فلمَّا شهد عليهم الثقات بهذا، هجروهم وبيَّنوا أمرهم، وذكر : أنَّه كاتب شيوخه ببغداد في هذا الأمر، وأنهم ردُّوا عليه ووافقوه على القول بحديث مجاهد، وفي كتابهم المذكور التغليظ على من ردَّ القول بالإقعاد على العرش، وأنَّ القائل بردِّه عدوٌّ لله مخالف للأئمَّة وأهل العلم، وأنه بقوله هذا قد انسلخ من الدِّين لتكبره ونفاقه، في كلام طويل جدًّا فيه سردٌ لمذهب السلف في الردِّ على أمثال هؤلاء فانظره فإنَّه مهم.
وكان آخر الكتاب المذكور أن قالوا فيه:
«وإن هذا الحديث لا ينكره إلا مبتدع جهمي، فنحن نسأل الله العافية من بدعته وضلالته فما أعظم ما جاء به هذا من الضلالة والبدع، عَمَدَ إلى حديث فيه فضيلة للنبي فأراد أن يزيله ويتكلم في من رواه، وقد قال النبي : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم»، ونحن نحذر عن هذا الرجل أن تستمعوا منه وممن قال بقوله أو تصدقوهم في شيء، فإن السنة عندنا إحياء ذكر هذا الحديث وما أشبهه مما ترده الجهمية»اهـ.
قلتُ:
فانظر يرحمك الله إلى شديد قولهم فيمن أنكر هذا الحديث، وكيف جعلوا من السُّنَّة إحياء ذِكره، فاللهم ثبتنا على الإيمان والسُّنَّة.
«وقال أبو بكر يحيى بن أبي طالب عن حديث مجاهد: «رواه الخلق عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد، واحتمله المحدِّثون الثقات، وحدَّثوا به على رؤوس الأشهاد لا يدفعون ذلك، يتلقونه بالقبول والسرور بذلك، وأنا فيما أرى أني أعقل منذ سبعين سنة والله ما أعرف أحدًا رده ولا يرده إلا كل جهمي مبتدع خبيث يدعو إلى خلاف ما كان عليه أشياخنا وأئمتنا ... والذي عندنا والحمد لله أنَّا نؤمن بحديث مجاهد ونقول به على ما جاء، ونسلم الحديث وغيره مما يخالف فيه الجهمية من الرؤية والصفات وقرب محمَّد منه ... فهذا ديني الذي أدين الله عز و جل به أسأل الله أن يميتنا ويحيينا عليه»اهـ بتصرف.
وقال أبو داود السجستاني: «.. ما ظننت أن أحدًا يُذكر بالسنة يتكلم في هذا الحديث».
«وقال محمد بن عمران الفارسي الزاهد: ما ظننت أنه يكون في المسلمين ولا في المؤمنين الصادقين ولا في العلماء المتفقهين ولا في العارفين العابدين ولا في الضلال المبتدعين أحد يستحل في عقد ديانته أو بدعته الطعن على رسول الله وردِّ فضيلة فضله الله بها وخصه بها ...فأما قول المسلمين المقام المحمود الشفاعة فإنا لا ندفع ذلك... بل صدق رسول الله أن الله عز وجل يشفعه في وقت ما يأذن له بالشفاعة ويكرمه بما أحب من الكرامة حتى يعرف أولياءه وأنبياءه كرامته وفضله... فكذلك الجلوس في وقت والشفاعة في وقت»اهـ بتصرف واختصار.
قال أبو موسى غفر الله له:
وهذا الذي نعتقده وندين الله به من أن المقام المحمود هو الإجلاس على العرش، وأن الشَّفاعة مقام آخر لا تَدْفَعُ إحدى الفضيلتين الأخرى، بل الكلُّ حقٌّ، ونرجوا له المزيد من العلو والرفعة يوم القيامة، فوالله ما أنقذنا الله من الكفر والضلال إلَّا به صلوات ربِّي وسلامه عليه، وحشرنا في زمرته وحزبه يوم القيامة. آمين.
فهذه طائفة -مختصرة- من أقوال أئمة السلف في هذا المسألة وإن ما نقلناه من أقوالهم يشعر أنَّ هناك إجماعًا منهم رحمهم الله على ثبوت هذه الفضيلة ولم ينكر هذا في القرون الثلاثة إلَّا الجهمية والمبتدعة أعاذنا الله من نحلتهم وشرِّهم.
فظهر بما نقلنا أنَّ المقام المحمود هو الإقعاد على العرش وأنَّه غير مدفوع البتَّة كما قال ذلك ابن جرير الطبري : ، وظهر أنَّ الحديث وإن كان في إسناده من هو متكلم فيه من قبل أهل الحديث -وهو ليث بن أبي سليم-، إلَّا أنَّهم قبلوا روايته هذه عن مجاهد ولم يردُّوها بل ولم ينقلوا عن أحد أنَّه أنكرها إلَّا مبتدع ضال جهمي زنديق. والله أعلم.
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
وكتب:
أبو موسى أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة الأردني
3/3/1432هـ
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق