21/07/2024

قراءة في المحرقة الغزِّية!

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..

أما بعد:
مشكلتنا اليوم مع المناصرين للجماعات المُقاتلة ذات الارتباطات الإقليمية وتحديدًا تلك المرتبطة مع محور إيران الطائفي والتي تكيل المدائح ليل نهار له بمناسبة وبغير مناسبة أن هؤلاء لا يستطيعون تخطي عقبة (غسيل الدماغ) التي حصلت لهم، ولا يرون مع ذلك (أيًّا كان هذا الرائي ودرجته) أن لدماء أهل غزَّة (المدنيين العُزَّل معدومي وسائل الحماية) أيَّ قيمة تُذكر، بل يتماهى الكثيرون من مُغيبي العقل والفكر -بلهَ- والإنسانية في مباركة أي أعمال من شأنها أن تزيد من وحشية هذا العدو الغاشم (الجبان الذي يملك القوة والدعم العسكري والمالي) بل يرون كثرة القتل دليل خير!! وأن هذا هو اصطفاء الله لأهل غزَّة فقدرهم (كذا يزعم المُصفقون) أن يكونوا شُهداء وهم اليوم شرف الأمة وكرامتها في زمن (انكشفت!) فيه الأقنعة عن من خذلهم ولم يدخل معهم في حربهم التي أتت على الأخضر واليابس (كما صرَّح بذلك حبيس الأنفاق!).
فهل ما تم القيام به من هذه الجماعات المُقاتلة يوافق شرع الله وسنة نبيه في المعارك والحروب؟
وهل يجوز لعاقل أن يبتدئ معركة من دون تأمين من يلي أمرهم من النساء والأطفال والشيوخ؟
وهل يُعقل في منطق الحرب أن يُترك الناس بلا ملجأ ولا طعام ولا شراب يكفيهم إذا ما امتد أمد هذه الحرب؟
وهل يدخل إنسان له فهم في الميدان العسكري حربًا من دون أن يتأكد من وجود الدعم العسكري والمالي له؟
وعلى فرض أن البعض قد غرر بكم ووعدكم فأخلف وعده فهل من العقل والدين أن تستمروا في هذه العملية التي بدت ثمارها المُدمرة بعد أقل من أسبوع من فعلتكم؟
كل هذه الأسئلة يجيب عنها المناصرون لمغامرة فصيل يتبع إيران بأجوبة تضحك منها الثكلى، كنحو قولهم غزَّة كشفت المنافقين، وغزَّة أظهرت المُرجفين، وغزَّة شرف وعزة الأمة، في أجوبة (عاطفية جارفة) كثيرة ليس فيها أي فهم لواقع الأمة اليوم ولو فُرض أنها مجتمعة وتحت قيادة واحدة فكيف بها وهي متفرقة ممزقة لا تمتلك أسباب قوَّتها ومَنَعَتها بل ولا تمتلك الاكتفاء بغذائها على أقل تعديل؟!
أما (المتفيقهون) ولاوي ألسنتهم فيرددون دون شعور (كالببغاوات) كلمات قالها بعض جلاوزة الإخوان المفسدين= (سببُ ضياع الإنسان والدين في هذا العصر) أن غزَّة أرجعت القضية الفلسطينية على الساحة بقوة وصارت حديث (الصالونات) السياسية وأصبحت دماء الفلسطينين وجراحاتهم ودمار بلدتهم المُحركَ للعالم الغربي (الحقير)، ويزعم هذا الفريق أن هذه المحرقة أُولى خطوات تحرير القدس وسائر ثرى فلسطين المباركة، ويذكرون غيرها من الأهداف التي تحققت والتي يختلقها أولئك النفر ممن ارتضى أن يضع عقله جانبًا ويُحارب من خلف الشاشات كل مُخالف لرأيه داعٍ إلى وقف سفك دماء الغزيين !
ولو نظر هؤلاء لحقيقة ما زعموه من تحقيق أهداف (هي سراب في حقيقتها) لرأى أن وضع القضية على طاولات ساسة العالم ما هو إلا ذرٌّ للرماد في العيون بل الواقع أن الدعم العسكري للكيان اللقيط يزداد والتمويل الهائل يفيض عليهم فيضًا بل أصبح تعنت العدو الغاشم وإصراره على الاستمرار في هذه المحرقة سبيلًا لفرض حلول على الأرض هي في صالحه وليست في صالح أهل فلسطين ولا مشروعهم التحرري فالعالم يعتبر الكيان دولة موجودة ولها كيانها المُعترف به من القوى الكبرى في العالم ويعتبر المقابل وهم أهل فلسطين أناسًا لهم حق في بعض أرضهم ولكن عليهم أن يحصلوا على هذا الحق بالطرق التي يقررها (الغرب الطاغي) وبما يتوافق مع مصالح الكيان اللقيط ويحفظ أمنه!
فهل تحتمل القواعد الشرعية والآراء الحكيمة العقلانية مثل هذا الدمار الحاصل وهل يمكن تحت أي ظرف أن يُسمى انتصارًا وإرغامًا لأنف العدو المحتل، بل هل يُجيز أي نبي لقومه مثل هذا العمل تحت مسمى الجهاد الشرعي فضلًا عن قبول نبينا ﷺ لأن يقوم أصحابه بعمل يكون فيه هلاك أهليهم وأطفالهم وشيوخهم؟
إنَّ الواقع المرير الذي يعيشه أهلنا في القطاع يستلزم من الجميع أن يُعيدوا النظر في آرائهم وفي نظرتهم لواقع الأمة الحقيقي والذي لا يبشر بخير لانتشار كبائر الذنوب ولانتشار البدع والخرافات ولتعلق الأمة بسنن المغضوب عليهم وسنن الضالين حذو القُذَّة بالقُذَّة مع أكل للربا وأخذ لأموال الناس بالباطل ولإضاعة الحقوق وقطيعة الرحم ولاقتراف الذنوب التي لم تُعهد حتى من أشد الناس بُعدًا عن الدين فأي أمة توافرت فيها هذه البلايا مع تفرقها وتشرذمها وطُغيان عدوها فلا جَرَمَ يحصل لها من الإذلال والتكالب ما يراه أبناء الأمة اليوم بأم أعينهم، وسبيلهم إلى الخلاص من هذا كله معروف ومحفوظ في عقول وصدور غالبية أبناء الأمة بل يستظهرون الحديث المذكور في ذلك عن ظهر قلب.
فالأمة اليوم ليست بحاجة لمقاطعة مأكل ومشرب حلال بقدر ما تحتاج لترك أكلها وشربها للربا والمُسكرات (مع أن دُعاة المُقاطعة لم يدعو أحدهم لمقاطعتها!) وبمقدار حاجتها لترك سُنن اليهود والنصارى حتى ذاب الكثيرون من أبناء الأمة في العادات الغربية حتى فقدوا هويتهم الإسلامية إلا من رحم ربك، أقول هذه الكلمات ويعتصرني الألم من حال بعض من كنا نُحسن الظن بهم من إخواننا الذين طغت العاطفة على عقولهم ووجدانهم فلم يعودوا ينكرون مُنكرًا ولا يعرفون معروفًا، بل غاية مرادهم الانتصار لرأيهم ولفكرتهم ولولاءاتهم الشخصية أو لرغبتهم في ركوب الموجة إما طلبًا لرضى من حوله وإما لخبيئة في نفسه، وإما رغبة في المخالفة ومنابذة الحق الواضح!
هدانا الله سبل الرشاد ووقانا طرق الضلالا، وعافانا من جميع الأهواء، وتوفانا على الكتاب والسنة موحدين متبعين على نهج الأولى السالفين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وكتب في 15 من محرم سنة 1446 من هجرة المُصطفى ﷺ
أبو موسى أحمد بن عياش الغرايبة
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
آمين .. آمين!
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

10/07/2024

الشحن العاطفي وحالة الضعف التي تعيشها الأمة وأمثلة من السيرة!


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أمَّا بعد:
فيطلق اليومَ الكثيرون من أبناء الأمة ممن لا يطاله اعتداء مباشر من أعداء الأمة كما يحصل اليوم في فلسطين السليبة والسودان والعراق وسورية وغيرها من الساحات. يطلقون عبارات شحن عاطفي عنوانها مُثير يحرك الحمية والمشاعر في القلوب، من مثل:
اغتصاب الأرض.
تدنيس المقدسات.
امتهان الكرامة.
المساس بالأعراض.
نهب الخيرات.
أخذ الحقوق.
منع الغذاء والدواء.
إلى غير ذلك من الكلمات التي قد تكون مطابقة لواقع الأمة اليوم أو بعض أبنائها بَيْدَ أنَّ تعابيرَ مثل استعادة الكرامة واستباحة المقدسات والحرمات لا تأتي غُفلًا من الحلول التي يُطلقها أصحابها -أيضًا- فيقررون للأمة أنه لا سبيل لاستعادة هذه الحقوق إلا سبيلًا أوحدًا لا يقبل البدل وهو سبيل التضحية والفداء بالأرواح والدماء وهذا الكلام في حقيقته كلام عاطفي لا يستند إلى شرع ولا حتى إلى عقل!

وليت التضحية والفداء المطلوبين من الأمة اليوم تنحصران في مَن يتخذ ذلك سبيلًا له كالتنظيمات المقاتلة على الساحة لهان الخطب حينئذ ولقال القائلون ما لكم ولهم قوم اختاروا طريقًا وهم وحدهم يتحملون عواقبه، لكن الحاصل اليوم -وللأسف- أن الذي يدفع فاتورة أفكار هذه الجماعات -ممن أخذ على عاتقه تخوين كل مخالف له في سبيله الذي اختاره- هو الشعوب العُزَّل ممن لا يملك خيارًا في حروبهم ولا حولًا في دفع دمارها عن نفسه وأهل بيته وقومه، فهل التضحية بكل هؤلاء المسلمين مما تقبله الشريعة الغرَّاء والعقول السويَّة؟

الجواب لأصحاب هذه العقلية التدميرية التي لا تُقيم وزنًا لواقع المسلمين ولا لأرواحهم التي أُزهقت وستُزهق: ألم يكن لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؟!

لماذا لم يضحي النبي ﷺ بأرواح المسلمين في مكة وقد مكثوا أكثر من نصف عمر الدعوة الإسلامية بل قريبًا من ثلثيها أي ما مقداره 15 سنة من أصل 23 سنة من عمر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة وذلك يوم فُرض على الأمة الجهاد في السنة الثانية من الهجرة الخامسة عشرة من البعثة، فقد فرض القتال لرد اعتداءات المعتدين، ولرفع كلمة الحق والدين؛ فقال تعالى «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَهِ الَذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَ اللَهَ لَا يُحِبُ الْمُعْتَدِينَ» [البقرة: ١٩٠].

فما هو الحال قبل أن يُشرع الجهاد في هذه الآية؟

إنك تقرأ في كتب السيرة أن المسلمين أُخذت بيوتهم وقُتلوا وهُجِّروا واضُطهدوا خمسة عشر سنة من عمر دعوة نبيهم وهو بين أظهرهم ولكنه رغم ما يراه ويعيشه لم يأمر ﷺ رجلًا أو شابًا صِنديدًا ممن آمن معه أن يتحرش بأحد من أئمة الشرك والكفر يومئذٍ فضلًا عن أن يقتله -رغم أن فيهم =(صحابة النبيﷺ) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم وهم من أشجع الشجعان وأتم الناس إيمانًا ويقينًا- فلماذا يرضى النبي ﷺ بهذا الاستضعاف ولا يتخذ من عقيدة الفداء والتضحية التي يطالب بها الجماعات المسلحة ومن يتعاطف معهم؟

والجواب عن ذلك أن الله –تعالى- ذكرَ للمسلمين حالات وأحوال تعتريهم ومن هذه الحالات حالة الضعف الذي لا يتمكنون معه من جهاد أعدائهم كما كان في العهد المكي فبماذا أمرهم ربهم تبارك وتعالى؟

ألم يأمرهم بالعفو والصفح والصبر حتى يأتي الله بأمره؟

قال الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِیر مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡء قَدِیر ۝١٠٩ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡر تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیر ۝١١٠﴾ [البقرة ١٠٩-١١٠].

قال ابن كثير –رحمه الله- في تفسيره:

"قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يتأوَّل مِنَ الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ بِقَتْلٍ، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ".

قال ابن كثير: "وَهَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَكِنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا".

ولعل من أقرب الأمثلة التي يمكن أن يُقال أنها تنطبق على ما يحصل لبعض أبناء أمة الإسلام هي حالة بني إسرائيل مع فرعون ومعلوم ما حصل لهم من اضطهاد وقتل وعذاب فماذا قال نبيهم موسى –عليه السلام- لهم وهم يُسامون سوء العذاب؟ ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾ [الأعراف ١٢٨].

قال العلامة السعدي في تفسيره:

"فـ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ موصيًا لهم في هذه الحالة، - التي لا يقدرون معها على شيء، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا باللّه، أنه سيتم أمركم وَاصْبِرُوا أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم، منتظرين للفرج.

إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي: يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته، ولكن العاقبة للمتقين، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من اللّه وحكمة، فإن النصر لهم، وَالْعَاقِبَةُ الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين اللّه، وينتظر الفرج".

وأقول مرة أخرى: لماذا لم يتعامل كليم الله موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعقلية التضحية والفداء التي يطلبها اليوم المجاهيل والحماسيون؟

الأمر واضح وضوح الشمس في رائعة النهار فالذي يحصل ليس جهادًا ولا هو شرعي ولا هو مما يُقره عاقل بَلْهَ لا يقبله دين الله ولا قواعد أهل العلم المرعية، فعلى من أشعل فتيل هذه الحروب الغاشمة وتترسَ بالمواطنين العُزل واختبأ هو في الأنفاق والسراديب أن يُنهي ما بدأه ويوقف شلال الدم فيسلم الأسرى الذين بين يديه لأنهم الآن -أعني الأسرى- ومنذ البداية هم الذريعة الكبرى عند هذا العدو الغاشم لإبادة أهلنا وإخواننا بل إنه يستعمل وجودهم وسيلة يستجلب بها دعم وتأييد وسلاح الغرب والشرق باسم الدفاع عن النفس وتأمين الحدود واسترجاع الأسرى، واليوم ليس ثمَّة حل سواه، فلتُدفع أعظم المفسدتين بأدناهما.

أما الدول العربية فلم تقصر فيما تقدر عليه ولم تتخاذل كما يصورها بعض الجهلة ولكنها تعرف قدرها وتقف عند حدود قوتها العسكرية وتعلم من الذي يقف وراء هذا المشروع الخطير الذي نفذته هذه الفصائل لجر المنطقة برُمَّتها إلى محرقة كبرى على أيدي طغمة طائشة مُغامرة اتبعت أشد الناس عداوة للعرب السنة لتكون عواصمنا العربية السُّنِّيَّة مرتعًا لأبناء المُتعة من ملالي إيران!

فالمطلوب اليوم وبعد هذه الأهوال التي دفع ثمنها العرب السنة –اقتصاديًا وماليًا- ودفع فاتورتها –أرواحًا ودماءً- أهلنا في فلسطين أن يعيدوا النظر في أخذهم للمواضيع التي هي مصيرية في عمر الأمة بعين الشرع والواقع لا بعين العاطفة والفزعات والنخوات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع فلنترك عن أنفسنا العواطف، فوالله لا أظن مسلمًا يرضى أن يحصل بسببه لأهل بيته عُشر معشار ما حصل لأهلنا في القطاع، فنسأل الله أن يرفع عنهم وأن يُهلك الصهاينة المجرمين وأن يهدي إخواننا إلى الحق ويعيدهم إلى حظيرة السنة، والله الموفق.

وكتب لثلاث خلون من شهر الله المحرم سنة ست وأربعين
أبو موسى أحمد الغرايبة
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
آمين آمين
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

08/07/2024

واجب النصرة للمسلمين في ضوء المعاهدات والمواثيق التي ترتبط بها الأمة!

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى..

أما بعد:
فإن الأحداث الجارية في بيت المقدس هذه الأيام تستثير لدى المسلمين الكثير من المشاعر والآلام لما يرونه من ظلم وعُدوان غاشم على إخوانهم وسوْمهم ألوانًا من القتل والتشريد والجوع والدمار، فيورد الكثير منهم وبعض المتعاطفين مع هذه القضايا الحاصلة في الساحة في أي بلد من المعمورة أحاديث نُصرة المسلم لأخيه المسلم، كقوله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}، وكالحديث الذي أخرجه الشيخان البخاري ومُسلم من حديث عبدالله بن عُمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: "المُسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ..." الحديث.

يوردون هذه الأدلة من غير نظر في معناها ولا في تفسير العلماء لها ويظنون أنهم بإيرادها يُلزمون مخالفيهم من طلبة العلم ويقيمون عليهم الحُجة بذلك، وبصرف النظر عن الحال الحاصلة فإن الله قيَّد الآية الآنفة الذكر بقوله: {إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق}، وإلا أداة استثناء فكأنه استثنى من واجب النصرة من كانوا بهذه الصفة المذكورة وهي أنهم يلتزمون عهودًا ومواثيق مع العدو الذي يسنصرهم عليه إخوانهم، وفي تفسير هذا المعنى قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» (11/ 294):
«{وإن استنصروكم في الدين} يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا، ولم يهاجروا. {في الدين}. يعنى: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر، إلا أن يستنصروكم {على قوم بينكم وبينهم ميثاق}. يعني: عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه {والله بما تعملون بصير}. يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضا أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر، ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم {بصير} يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء». انتهى.

فالآية محكمة وواضحة لمن كان له عقل وفهم، فمهما كان الاعتداء على طائفة من المسلمين فإنه لا يجوز نصرتهم على عدوهم الذي بيننا وبينه ميثاق سواء كان هذا العدو محتلًا أم كان غازيًا فنقض العهد ليس من سيما المسلمين وقد نهاهم ربهم عن عدم الإيفاء بالعهود.

وأما ما يورده البعض من أحاديث فنكتفي فيه بنقل أقوال العلماء في معنى النُّصرة الواردة في الحديث، قال النووي -رحمه الله- في شرحه للحديث: "وأما نصرُ المظلوم فمِن فُروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يتوجه الأمر به على مَن قَدِرَ عليه ولم يَخَفْ ضررًا". انتهى. وقد بين الحافظ ابن حجر أن أمر النُصرة قد يكون واجبًا وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال، وراجع كلامه عند شرح الحديث في فتح الباري.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "«مجموع فتاواه» (18/ 388):
«إنه في عصرنا الحاضر ‌يتعذر ‌القيام ‌بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه، لضعف المسلمين ماديًّا ومعنويًّا وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية، ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية، فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة». انتهى.

قأل أبو موسى -غفر الله له-:
وليس من الفقه في شيء أن تُطالبَ الدول الإسلامية -والعربية على وجه الخصوص- بإشعال الحروب مع دول العالم في ظل قوة هذه الدول وترسانتها الحربية العظيمة والتي لو جُمعت كل أسلحة العرب لم تفتك بالعدو كما تفتكُ قنبلة ذرية أو هايدروجينية واحدة فالتفاوت اليوم في القوة يبلغ منتهاه والتكافؤ في السلاح يكاد يكون معدومًا بالمرة ومن عرف حجم وقوة روسيا -مثلًا- في مقابل حجم وقوة أوكرانيا عرف أن الفرق بينها كالفرق بين قوة المصارع العظيم وقوة الغلام فما الذي يُعجز روسيا بعظمتها أن تحسم المعركة مع هذا العدو الضعيف بالنسبة لها؟

إنه لما وقفت دول الغرب اليوم وعلى رأسها أمريكا في ظهر أوكرانيا ودعمتها بالمال والسلاح والتكنولوجيا لم تستطع روسيا رغم أن ترتيبها في القوة هو الثاني على العالم أن تحسم المعركة منذ أربع سنين ولا يشك عاقل أن بلدًا كروسيا يملك أسلحته الخاصة والتي يصنعها هو وفي داخل أراضيه ولا يقوم باستيرادها من هنا وهناك كما هو الحال في بلداننا، فتأمل ولا تُسلم عقلك لمن يعبث به وبعواطفك، وتعلم فإنك بالعلم والفهم -أخي القارئ الكريم- تردُّ عن نفسك شُبهات القوم من دُعاة الخراب والقتل والدمار من المغامرين والمقامرين بأرواح الأمة ومُقدراتها!

فقضية النصرة يجب فهمها في سياقها ووفق النصوص الشرعية والسيرة النبوية والمصالح المترتبة عليها أو المفاسد الحاصلة بسببها.

والسؤال المُلِحُّ: بماذا إذن ينصر المسلم أخاه المسلم إن كان حاله الضعف والارتباط بالعهود والمواثيق؟

أقول وبالله التوفيق:
لا يشترط أن تكون النصرة بالسلاح والحرب بل تكون النصرة بالمال والغذاء وبالمواقف السياسية وبمحاولة الضغط بشتى الوسائل الاقتصادية والسياسية وبعقد التحالفات وإثارة استنكار العقلاء في العالم، وبإعداد العُدة الرادعة إيمانيًا وعسكريًا، وبالدعاء من عموم المسلمين بإخلاص وصدق، فالأمر بيد الله وهو سبحانه وتعالى سميع مُجيب.

واليوم تقوم دولنا الإسلامية -العربية حصرًا- بكل ما تستطيعه في نصرة أهلنا في فلسطين السليبة، ولم يبخلوا لا بالمال ولا بالدواء ولا بالغذاء ولا بالبناء ولا بشيء مما يمكنهم استعماله وإيصاله إلى أهلنا في القطاع وغيره، وهم مأجورون بذلك إن شاء الله وعلى المسلمين بدل أن يُلقوا باللوم على الدول والقادة أن يُلقوا باللوم على أنفسهم فقد خاطبهم ربهم بقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، وقال: {هو من عند أنفسكم}، فحال الأمة اليوم رجالًا ونساءً ليس هو الحال الذي تتحقق فيه نصرة الله لها، ففشو الكذب والربا والخمور والفجور وقبل ذلك كله وعلى رأسه الشرك في عبادة الله وانحراف العقائد وترك السنن والاستهزاء بها وبأهلها كل هذه الأمور من أسباب تسلط أعدائنا علينا، فمتى تصحو الأمة من غفلتها وتتعرف مدى بعدها عن ربها ودينها في كل شؤون حياتها تبدأ بأولى خطوات النصر الذي ترجوه من ربها عز وجل، وإلى ذلك الوقت ستظل الأمة مستضعفة تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأَكَلَةُ إلى قصعتها وسيسلط الله عليها من ألوان الذُّل ما لا يدرك مقداره إلا الله، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ بأبي هو وأمي.

فاللهم رُدنا إليك ردًّا جميلًا وفقهنا وفهمنا وألهمنا مراشد الأمور.. آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين
وكتب أبو موسى أحمد الغرايبة غُرة شهر الله المحرم سنة ست وأربعين.
والحمد لله رب العالمين.