08/07/2024

واجب النصرة للمسلمين في ضوء المعاهدات والمواثيق التي ترتبط بها الأمة!

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى..

أما بعد:
فإن الأحداث الجارية في بيت المقدس هذه الأيام تستثير لدى المسلمين الكثير من المشاعر والآلام لما يرونه من ظلم وعُدوان غاشم على إخوانهم وسوْمهم ألوانًا من القتل والتشريد والجوع والدمار، فيورد الكثير منهم وبعض المتعاطفين مع هذه القضايا الحاصلة في الساحة في أي بلد من المعمورة أحاديث نُصرة المسلم لأخيه المسلم، كقوله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر}، وكالحديث الذي أخرجه الشيخان البخاري ومُسلم من حديث عبدالله بن عُمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: "المُسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ..." الحديث.

يوردون هذه الأدلة من غير نظر في معناها ولا في تفسير العلماء لها ويظنون أنهم بإيرادها يُلزمون مخالفيهم من طلبة العلم ويقيمون عليهم الحُجة بذلك، وبصرف النظر عن الحال الحاصلة فإن الله قيَّد الآية الآنفة الذكر بقوله: {إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق}، وإلا أداة استثناء فكأنه استثنى من واجب النصرة من كانوا بهذه الصفة المذكورة وهي أنهم يلتزمون عهودًا ومواثيق مع العدو الذي يسنصرهم عليه إخوانهم، وفي تفسير هذا المعنى قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» (11/ 294):
«{وإن استنصروكم في الدين} يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا، ولم يهاجروا. {في الدين}. يعنى: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، فعليكم أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار النصر، إلا أن يستنصروكم {على قوم بينكم وبينهم ميثاق}. يعني: عهد قد وثق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه {والله بما تعملون بصير}. يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضا أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر، ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم {بصير} يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء». انتهى.

فالآية محكمة وواضحة لمن كان له عقل وفهم، فمهما كان الاعتداء على طائفة من المسلمين فإنه لا يجوز نصرتهم على عدوهم الذي بيننا وبينه ميثاق سواء كان هذا العدو محتلًا أم كان غازيًا فنقض العهد ليس من سيما المسلمين وقد نهاهم ربهم عن عدم الإيفاء بالعهود.

وأما ما يورده البعض من أحاديث فنكتفي فيه بنقل أقوال العلماء في معنى النُّصرة الواردة في الحديث، قال النووي -رحمه الله- في شرحه للحديث: "وأما نصرُ المظلوم فمِن فُروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يتوجه الأمر به على مَن قَدِرَ عليه ولم يَخَفْ ضررًا". انتهى. وقد بين الحافظ ابن حجر أن أمر النُصرة قد يكون واجبًا وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال، وراجع كلامه عند شرح الحديث في فتح الباري.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "«مجموع فتاواه» (18/ 388):
«إنه في عصرنا الحاضر ‌يتعذر ‌القيام ‌بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه، لضعف المسلمين ماديًّا ومعنويًّا وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية، ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية، فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة». انتهى.

قأل أبو موسى -غفر الله له-:
وليس من الفقه في شيء أن تُطالبَ الدول الإسلامية -والعربية على وجه الخصوص- بإشعال الحروب مع دول العالم في ظل قوة هذه الدول وترسانتها الحربية العظيمة والتي لو جُمعت كل أسلحة العرب لم تفتك بالعدو كما تفتكُ قنبلة ذرية أو هايدروجينية واحدة فالتفاوت اليوم في القوة يبلغ منتهاه والتكافؤ في السلاح يكاد يكون معدومًا بالمرة ومن عرف حجم وقوة روسيا -مثلًا- في مقابل حجم وقوة أوكرانيا عرف أن الفرق بينها كالفرق بين قوة المصارع العظيم وقوة الغلام فما الذي يُعجز روسيا بعظمتها أن تحسم المعركة مع هذا العدو الضعيف بالنسبة لها؟

إنه لما وقفت دول الغرب اليوم وعلى رأسها أمريكا في ظهر أوكرانيا ودعمتها بالمال والسلاح والتكنولوجيا لم تستطع روسيا رغم أن ترتيبها في القوة هو الثاني على العالم أن تحسم المعركة منذ أربع سنين ولا يشك عاقل أن بلدًا كروسيا يملك أسلحته الخاصة والتي يصنعها هو وفي داخل أراضيه ولا يقوم باستيرادها من هنا وهناك كما هو الحال في بلداننا، فتأمل ولا تُسلم عقلك لمن يعبث به وبعواطفك، وتعلم فإنك بالعلم والفهم -أخي القارئ الكريم- تردُّ عن نفسك شُبهات القوم من دُعاة الخراب والقتل والدمار من المغامرين والمقامرين بأرواح الأمة ومُقدراتها!

فقضية النصرة يجب فهمها في سياقها ووفق النصوص الشرعية والسيرة النبوية والمصالح المترتبة عليها أو المفاسد الحاصلة بسببها.

والسؤال المُلِحُّ: بماذا إذن ينصر المسلم أخاه المسلم إن كان حاله الضعف والارتباط بالعهود والمواثيق؟

أقول وبالله التوفيق:
لا يشترط أن تكون النصرة بالسلاح والحرب بل تكون النصرة بالمال والغذاء وبالمواقف السياسية وبمحاولة الضغط بشتى الوسائل الاقتصادية والسياسية وبعقد التحالفات وإثارة استنكار العقلاء في العالم، وبإعداد العُدة الرادعة إيمانيًا وعسكريًا، وبالدعاء من عموم المسلمين بإخلاص وصدق، فالأمر بيد الله وهو سبحانه وتعالى سميع مُجيب.

واليوم تقوم دولنا الإسلامية -العربية حصرًا- بكل ما تستطيعه في نصرة أهلنا في فلسطين السليبة، ولم يبخلوا لا بالمال ولا بالدواء ولا بالغذاء ولا بالبناء ولا بشيء مما يمكنهم استعماله وإيصاله إلى أهلنا في القطاع وغيره، وهم مأجورون بذلك إن شاء الله وعلى المسلمين بدل أن يُلقوا باللوم على الدول والقادة أن يُلقوا باللوم على أنفسهم فقد خاطبهم ربهم بقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}، وقال: {هو من عند أنفسكم}، فحال الأمة اليوم رجالًا ونساءً ليس هو الحال الذي تتحقق فيه نصرة الله لها، ففشو الكذب والربا والخمور والفجور وقبل ذلك كله وعلى رأسه الشرك في عبادة الله وانحراف العقائد وترك السنن والاستهزاء بها وبأهلها كل هذه الأمور من أسباب تسلط أعدائنا علينا، فمتى تصحو الأمة من غفلتها وتتعرف مدى بعدها عن ربها ودينها في كل شؤون حياتها تبدأ بأولى خطوات النصر الذي ترجوه من ربها عز وجل، وإلى ذلك الوقت ستظل الأمة مستضعفة تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأَكَلَةُ إلى قصعتها وسيسلط الله عليها من ألوان الذُّل ما لا يدرك مقداره إلا الله، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ﷺ بأبي هو وأمي.

فاللهم رُدنا إليك ردًّا جميلًا وفقهنا وفهمنا وألهمنا مراشد الأمور.. آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين
وكتب أبو موسى أحمد الغرايبة غُرة شهر الله المحرم سنة ست وأربعين.
والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق