10/07/2024

الشحن العاطفي وحالة الضعف التي تعيشها الأمة وأمثلة من السيرة!


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أمَّا بعد:
فيطلق اليومَ الكثيرون من أبناء الأمة ممن لا يطاله اعتداء مباشر من أعداء الأمة كما يحصل اليوم في فلسطين السليبة والسودان والعراق وسورية وغيرها من الساحات. يطلقون عبارات شحن عاطفي عنوانها مُثير يحرك الحمية والمشاعر في القلوب، من مثل:
اغتصاب الأرض.
تدنيس المقدسات.
امتهان الكرامة.
المساس بالأعراض.
نهب الخيرات.
أخذ الحقوق.
منع الغذاء والدواء.
إلى غير ذلك من الكلمات التي قد تكون مطابقة لواقع الأمة اليوم أو بعض أبنائها بَيْدَ أنَّ تعابيرَ مثل استعادة الكرامة واستباحة المقدسات والحرمات لا تأتي غُفلًا من الحلول التي يُطلقها أصحابها -أيضًا- فيقررون للأمة أنه لا سبيل لاستعادة هذه الحقوق إلا سبيلًا أوحدًا لا يقبل البدل وهو سبيل التضحية والفداء بالأرواح والدماء وهذا الكلام في حقيقته كلام عاطفي لا يستند إلى شرع ولا حتى إلى عقل!

وليت التضحية والفداء المطلوبين من الأمة اليوم تنحصران في مَن يتخذ ذلك سبيلًا له كالتنظيمات المقاتلة على الساحة لهان الخطب حينئذ ولقال القائلون ما لكم ولهم قوم اختاروا طريقًا وهم وحدهم يتحملون عواقبه، لكن الحاصل اليوم -وللأسف- أن الذي يدفع فاتورة أفكار هذه الجماعات -ممن أخذ على عاتقه تخوين كل مخالف له في سبيله الذي اختاره- هو الشعوب العُزَّل ممن لا يملك خيارًا في حروبهم ولا حولًا في دفع دمارها عن نفسه وأهل بيته وقومه، فهل التضحية بكل هؤلاء المسلمين مما تقبله الشريعة الغرَّاء والعقول السويَّة؟

الجواب لأصحاب هذه العقلية التدميرية التي لا تُقيم وزنًا لواقع المسلمين ولا لأرواحهم التي أُزهقت وستُزهق: ألم يكن لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؟!

لماذا لم يضحي النبي ﷺ بأرواح المسلمين في مكة وقد مكثوا أكثر من نصف عمر الدعوة الإسلامية بل قريبًا من ثلثيها أي ما مقداره 15 سنة من أصل 23 سنة من عمر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة وذلك يوم فُرض على الأمة الجهاد في السنة الثانية من الهجرة الخامسة عشرة من البعثة، فقد فرض القتال لرد اعتداءات المعتدين، ولرفع كلمة الحق والدين؛ فقال تعالى «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَهِ الَذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَ اللَهَ لَا يُحِبُ الْمُعْتَدِينَ» [البقرة: ١٩٠].

فما هو الحال قبل أن يُشرع الجهاد في هذه الآية؟

إنك تقرأ في كتب السيرة أن المسلمين أُخذت بيوتهم وقُتلوا وهُجِّروا واضُطهدوا خمسة عشر سنة من عمر دعوة نبيهم وهو بين أظهرهم ولكنه رغم ما يراه ويعيشه لم يأمر ﷺ رجلًا أو شابًا صِنديدًا ممن آمن معه أن يتحرش بأحد من أئمة الشرك والكفر يومئذٍ فضلًا عن أن يقتله -رغم أن فيهم =(صحابة النبيﷺ) أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم وهم من أشجع الشجعان وأتم الناس إيمانًا ويقينًا- فلماذا يرضى النبي ﷺ بهذا الاستضعاف ولا يتخذ من عقيدة الفداء والتضحية التي يطالب بها الجماعات المسلحة ومن يتعاطف معهم؟

والجواب عن ذلك أن الله –تعالى- ذكرَ للمسلمين حالات وأحوال تعتريهم ومن هذه الحالات حالة الضعف الذي لا يتمكنون معه من جهاد أعدائهم كما كان في العهد المكي فبماذا أمرهم ربهم تبارك وتعالى؟

ألم يأمرهم بالعفو والصفح والصبر حتى يأتي الله بأمره؟

قال الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِیر مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡء قَدِیر ۝١٠٩ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُوا۟ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَیۡر تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیر ۝١١٠﴾ [البقرة ١٠٩-١١٠].

قال ابن كثير –رحمه الله- في تفسيره:

"قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَة بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللَّهُ: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يتأوَّل مِنَ الْعَفْوِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ بِقَتْلٍ، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ".

قال ابن كثير: "وَهَذَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَكِنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا".

ولعل من أقرب الأمثلة التي يمكن أن يُقال أنها تنطبق على ما يحصل لبعض أبناء أمة الإسلام هي حالة بني إسرائيل مع فرعون ومعلوم ما حصل لهم من اضطهاد وقتل وعذاب فماذا قال نبيهم موسى –عليه السلام- لهم وهم يُسامون سوء العذاب؟ ﴿قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾ [الأعراف ١٢٨].

قال العلامة السعدي في تفسيره:

"فـ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ موصيًا لهم في هذه الحالة، - التي لا يقدرون معها على شيء، ولا مقاومة - بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا باللّه، أنه سيتم أمركم وَاصْبِرُوا أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم، منتظرين للفرج.

إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ ليست لفرعون ولا لقومه حتى يتحكموا فيها يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي: يداولها بين الناس على حسب مشيئته وحكمته، ولكن العاقبة للمتقين، فإنهم - وإن امتحنوا مدة ابتلاء من اللّه وحكمة، فإن النصر لهم، وَالْعَاقِبَةُ الحميدة لهم على قومهم وهذه وظيفة العبد، أنه عند القدرة، أن يفعل من الأسباب الدافعة عنه أذى الغير، ما يقدر عليه، وعند العجز، أن يصبر ويستعين اللّه، وينتظر الفرج".

وأقول مرة أخرى: لماذا لم يتعامل كليم الله موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بعقلية التضحية والفداء التي يطلبها اليوم المجاهيل والحماسيون؟

الأمر واضح وضوح الشمس في رائعة النهار فالذي يحصل ليس جهادًا ولا هو شرعي ولا هو مما يُقره عاقل بَلْهَ لا يقبله دين الله ولا قواعد أهل العلم المرعية، فعلى من أشعل فتيل هذه الحروب الغاشمة وتترسَ بالمواطنين العُزل واختبأ هو في الأنفاق والسراديب أن يُنهي ما بدأه ويوقف شلال الدم فيسلم الأسرى الذين بين يديه لأنهم الآن -أعني الأسرى- ومنذ البداية هم الذريعة الكبرى عند هذا العدو الغاشم لإبادة أهلنا وإخواننا بل إنه يستعمل وجودهم وسيلة يستجلب بها دعم وتأييد وسلاح الغرب والشرق باسم الدفاع عن النفس وتأمين الحدود واسترجاع الأسرى، واليوم ليس ثمَّة حل سواه، فلتُدفع أعظم المفسدتين بأدناهما.

أما الدول العربية فلم تقصر فيما تقدر عليه ولم تتخاذل كما يصورها بعض الجهلة ولكنها تعرف قدرها وتقف عند حدود قوتها العسكرية وتعلم من الذي يقف وراء هذا المشروع الخطير الذي نفذته هذه الفصائل لجر المنطقة برُمَّتها إلى محرقة كبرى على أيدي طغمة طائشة مُغامرة اتبعت أشد الناس عداوة للعرب السنة لتكون عواصمنا العربية السُّنِّيَّة مرتعًا لأبناء المُتعة من ملالي إيران!

فالمطلوب اليوم وبعد هذه الأهوال التي دفع ثمنها العرب السنة –اقتصاديًا وماليًا- ودفع فاتورتها –أرواحًا ودماءً- أهلنا في فلسطين أن يعيدوا النظر في أخذهم للمواضيع التي هي مصيرية في عمر الأمة بعين الشرع والواقع لا بعين العاطفة والفزعات والنخوات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع فلنترك عن أنفسنا العواطف، فوالله لا أظن مسلمًا يرضى أن يحصل بسببه لأهل بيته عُشر معشار ما حصل لأهلنا في القطاع، فنسأل الله أن يرفع عنهم وأن يُهلك الصهاينة المجرمين وأن يهدي إخواننا إلى الحق ويعيدهم إلى حظيرة السنة، والله الموفق.

وكتب لثلاث خلون من شهر الله المحرم سنة ست وأربعين
أبو موسى أحمد الغرايبة
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
آمين آمين
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق