الطاعة من الزوجة والأبناء ثمرة
المحبة!
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره..
أما بعد:
فالمحبة الصادقة النابعة من القلب لشيء أو إنسان
فإنها تورث الطاعة والانقياد لهذا المحبوب فهي -أي الطاعة- ثمرة لهذه المحبة المُدَّعاة،
وتاليًا في هذه الكليمات القليلة أسلط الضوء على هذا الموضوع لعل الله أن ينفعني
به وينفع به من قرأه.
- الطاعة لغة: [اقتباس]: هي الاسم من قولهم: أطاعه
يطيعه طاعة، والمصدر الإطاعة، وهي مأخوذة من مادّة (ط و ع) الّتي تدلّ على الإصحاب
والانقياد*.
فالطاعة الانقياد لمن يحب والمُضي في أمره على ما
أراده منه الآمر له. كما يقال لمن وافق
غيره قد طاوعه. قال تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ (آل عمران/ 83).
والطّاعة أكثر ما تقال في الائتمار لما أُمر به
والارتسام فيما رُسم، يقال: طاعه يطوعه (طوعا) ، وطاوعه، يطاوعه مطاوعة.
قال ابن منظور: والطّواعية اسم لما يكون مصدرا لطاوعه
أي للمطاوعة يقال: طاوعت المرأة زوجها طواعية.
- الطاعة اصطلاحا:
[اقتباس]: قال الجرجانيّ: الطّاعة هي موافقة الأمر
عندنا (معشر أهل السّنة).
وقال الكفويّ: الطّاعة فعل المأمورات ولو ندبا، وترك
المنهيّات ولو كراهة. [انتهى].
إذن، الطاعة معناها ظاهر من لفظها، وقد قيدها الشارع
بالمعروف، فكثيرون من الناس يدعون المحبة وتفضحهم مواقف الطاعة، فلو وافقت الطاعة
قبل المحب لزادت وأثمرت من الخير ما الله به عليم فالولد لا يتمكن حبه من قلب
والده إلا بمقدار طاعته لهذا الوالد، لذلك تجد الفارق في محبة الأبناء إنما مناطه
شدة طاعتهم وانقبادهم لأمر الوالد وموافقته على مُراداته، وكذلك الزوجات فمحبة
إحداهن مقياسها الطاعة والانقياد لما يحبه الزوج ويرضاه ولو كان مكروهًا للزوجات
-شريطة أن لا تكون الطاعة في أمر معصية-، لذلك قال ابن القيم - رحمه الله- في كتابه
«الفوائد»: «إذا علقت شروش المعرفة في أرض القلب نبتت فيه شجرة المحبّة، فإذا
تمكّنت وقويت أثمرت الطّاعة، فلا تزال الشّجرة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها».
فإذا كان عكس ما ذُكر كانت الشجرة كالهشيم يابسة
عقيمًا لا تُثمر ولا يرغب بها صاحبها ولا ينتفع بها كشجرة تساقطت أوراقها فلا هي
يُجنى من ثمرها ولا هي بِالْيُسْتظلُّ بظلها؛ وقد يؤدي به الأمر إلى قطعها!
فالطاعة وقود المحبة والمودة وبها تزهو الحياة وتطيب،
فكلما كانت الطاعة أشد كلما كانت الحياة بعيدة عن الضغائن والإحن والشكايات، وكلما
كانت النفوس أهدأ وأطيب فالمعاكسة والمُضادة وعدم الانقياد للأوامر يورث الغل
والحقد واللامبالاة ويؤدي إلى الكراهية والبغض فالنفوس مجبولة على محبة من يطيعها
وينقاد لها، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر خير متاع الدنيا ذكر
المرأة الصالحة، وذكر في صفاتها أنها مطيعة لبعلها ومنقادة لأمره، فقال: إذا صلت
المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي
أبواب الجنة شئت.
وقال: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة. والرضى
إنما يتأتى من الطاعة لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمرا أحدا أن
يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي
المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه.
والمعنى هنا ظاهر وهو الطاعة، فإذا كانت الطاعة واجبة
في أعلى مقاصد الزواج وهو قضاء الوطر، فمن باب أولى فيما دون ذلك، وقد صح عنه صلى
الله عليه وسلم أنه سئل: أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر،
ولا تخالفه في نفسها وماله بما يكره.
وقد سمى النبي المرأة المطيعة كنزًا أي مُدخرًا
للحياة وقسوتها يهجع المرء إليه ويطمئن به فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك
بخير ما يكتنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته،
وإذا غاب عنها حفظته.
[اقتباس]: وهذه الطاعة عامة في كل ما وافق الشرع
والعرف، قال في عون المعبود شرح سنن أبي داود في شرح هذا الحديث: قوله: بخير ما
يكنز المرء أي بأفضل ما يقتنيه ويتخذه لعاقبته المرأة الصالحة أي الجميلة ظاهرا
وباطنا... قيل: فيه إشارة إلى أن هذه المرأة أنفع من الكنز المعروف، فإنها خير ما
يدخرها الرجل لأن النفع فيها أكثر لأنه إذا نظر -أي الرجل- إليها سرته أي جعلته
مسرورا لجمال صورتها، وحسن سيرتها، وحصول حفظ الدين بها، وإذا أمرها بأمر شرعي أو
عرفي أطاعته وخدمته، وإذا غاب عنها حفظته.
وطاعة الزوج مقدمة على طاعة كل أحد حتى الوالدين، لأن
حقه عليها بعد زواجها به أعظم من حق والديها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه
الله-: المرأة إذا تزوجت، كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب. [انتهى].
وطاعة الأبناء تبع لهذه الطاعة بل هي أوجب فهي من
البر المأمور به، وفي الحديث: رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد.
قال المناوي في فيض القدير: رضا الرب في رضا الوالد
وسخط الرب في سخط الوالد) لأنه تعالى أمر أن يطاع الأب ويكرم فمن امتثل أمر الله
فقد بر الله وأكرمه وعظمه فرضى عنه ومن خالف أمره غضب عليه.. وهذا وعيد شديد يفيد
أن العقوق كبيرة وقد تظاهرت على ذلك النصوص.
قال الزين العراقي: فإن قيل: ما وجه تعلق رضى الله
عنه برضى الوالد قلنا: الجزاء من جنس العمل فلما أرضى من أمر الله بإرضائه رضي
الله عنه فهو من قبيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس قال الغزالي: وآداب الولد مع
والده أن يسمع كلامه ويقوم بقيامه ويمتثل أمره ولا يمشي أمامه ولا يرفع صوته ويلبي
دعوته ويحرص على طلب مرضاته ويخفض له جناحه بالصبر ولا يمن بالبر له ولا بالقيام
بأمره ولا ينظر إليه شزرا ولا يقطب وجهه في وجهه. انتهى.
فالطاعة إذن ثمرة المحبة والانقياد وعدمها ثمرة
العصيان والفساد، لذلك أنشد الشافعي -رحمه الله-:
تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ :: هذا
محالٌ في القياس بديعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ :: إنَّ
الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
في كلِّ يومٍ يبتديكَ بنعمةٍ :: منهُ وأنتَ لشكرِ
ذاكَ مضيعُ
وقياسًا عليه فطاعة الزوج والوالد مع ما يبذله من تعب
وتحمل لمشاق الحياة وتربية وإنفاق للغالي والنفيس في سبيل توفير ما تحتاجه أسرته
من الحياة الكريمة ولو على حساب نفسه وصحته وقوة بدنه موجب لكل ذي عقل أن يطيع ولا
يعصي وأن يوافق ولا يخالف وأن يصون ولا يخون وأن يقدم في سبيل إرضاء هذا الولي كل
جميل ويبتعد عن كل ما يكدر صفوه ويزعج قلبه، وإلا كانت المحبة مُدَّعاة غير صادقة
ومنحولة غير أصيلة في النفوس، وكل نفس بما كسبت رهينة وكل إنسان ألزمه الله طائره
في عنقه ويُخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا ويقول له: اقرأ كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيبًا، أعاذنا الله من الوقوف بين يديه وصحائفنا مليئة بالحقوق
لمن ولاه الله أمرنا وأعاننا على شرور أنفسنا ووقانا ميتة السوء وموقف السوء، وشرح
صدورنا للإيمان وزينه في قلوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب لتسع مضين من شهر الله المحرم سنة خمس وأربعين
وأربعمئة وألف من الهجرة:
أبو موسى أحمد بن عياش الغرايبة
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
جزاك الله كل خير اخي العزيز ابو موسى
ردحذف