«مختصر زاد المعاد»
..::[16]::..
[فَصْلٌ فِي تَعْظِيْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ]
وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بخصائص منها: أنه يقرأ في فجره بـ ﴿الم﴾ [السجدة: 1] السجدة، و﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ [الإنسان:1]؛ فإنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها.
ومنها: استحباب كثرة الصلاة فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي ليلته، لأن كُلَّ خَيْرٍ نَالَتْهُ أُمَّتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فعلى يديه، وأعظم كرامة تحصل لهم يَوْمَ الْجُمُعَةِ: فَإِنَّ فِيهِ بَعْثَهُمْ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ يَوْمُ الْمَزِيدِ لَهُمْ إِذَا دخلوها، وقربهم من ربهم يوم القيامة، وسبقهم إلى الزيادة بِحَسْبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَبْكِيرِهِمْ إليها.
ومنها: الاغتسال فِي يَوْمِهَا، وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ جِدًّا، وَوُجُوبُهُ أقوى من وجوب الوضوء من مس الذكر، والرعاف، وَالْقَيْءِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلم- في التشهد الأخير(1).
ومنها: الطيب والسواك، ولها مزية فيه على غيره.
ومنها التبكير، والاشتغال بذكر الله تعالى، والصلاة إلى خروج الإمام.
ومنها: الإنصات للخطبة وجوبًا.
ومنها: قراءة (الجمعة) و (المنافقين) أو (سبح) و (الغاشية) .
ومنها: أن يلبس فيه أحسن ثيابه.
ومنها: أن للماشي إليها بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها(2).
ومنها: أنه يكفر السيئات.
ومنها: ساعة الإجابة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ ومساكم.
«وكان يقول في خطبته: «أما بعد» ، ويقصر الخطبة، ويطيل الصلاة، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إِذَا عَرَضَ له أمر، كَمَا أَمَرَ الدَّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلِّيَ ركعتين، وإذا رأى بهم ذا فاقة من حاجة، أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها. وكان يشير في خطبته بإصبعه السبابة عند ذكر الله ودعائه(3).
وكان يستسقي إذا قحط المطر في خطبته، ويخرج إذا اجتمعوا، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا صَعِدَ المنبر، استقبلهم بوجهه، وسلم عليهم ثُمَّ يَجْلِسُ، وَيَأْخُذُ بلال فِي الْأَذَانِ، فَإِذَا فرغ، قام وخطب، ويعتمد على قوس أو عصا، وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ قَبْلَ اتِّخَاذِهِ يخطب إلى جذع، ولم يوضع المنبر في وسط المسجد، بل في جانبه الغربي، بينه وبين الحائط قدر ممر شاة، وكان إذا جلس عليه في غير الجمعة، أو خطب قائما يوم الجمعة، استدار أصحابه إليه بوجوههم، وَكَانَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أخذ بلال في الإقامة.
وكان يأمر بالدنو منه والإنصات، ويخبر أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ. فَقَدْ لغا، ومن لغا فلا جمعة له.
وكان إذا صلى الجمعة دخل مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ سُنَّتَهَا، وَأَمَرَ مَنْ صَلَّاهَا أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهَا أربعًا.
قال شيخنا: إذا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِنْ صَلَّى في بيته صلى ركعتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله: « وَهُوَ أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ جِدًّا، وَوُجُوبُهُ أقوى من ... وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلم- في التشهد الأخير»، ذلك أنَّ أهل العلم اختلفوا في وجوب الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم- في التشهد الأخير من الصلاة «فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ : إِنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ سُنَّةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَقَالُوا : تَجِبُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْعُمْرِ مَرَّةً لِلأَمْرِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56]، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ «بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيمِ التَّشَهُّدِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَلْفَاظَ التَّشَهُّدِ : «إِذَا قُلْتَ هَذَا ، أَوْ فَعَلْتَ ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاتُكَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ»، وَقَالُوا : وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَجُمْلَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .... وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إِنَّهَا تَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ مِنْ كُلِّ صَلاةٍ ... وَقَالُوا : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلاةَ عَلَى نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْله تَعَالَى : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] فَلَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّلاةِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ أَوْلَى مِنَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلاةِ . وَوَجَدْنَا الدَّلالَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا وَصَفْنَا ؛ مِنْ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الصَّلاةِ ، لا فِي خَارِجِهَا . فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ يَعْنِي فِي الصَّلاةِ . فَقَالَ : «تَقُولُونَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَآلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ تُسَلِّمُونَ عَلَيَّ».
وَقَالَ الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ - : فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ - وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ - أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ ، وَالصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . وَمَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَتَشَهَّدْ فِيهَا ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُحْسِنُ التَّشَهُّدَ - فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا . وَإِنْ تَشَهَّدَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ، فَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا . وَإِنْ كَانَ لا يُحْسِنُهُمَا عَلَى وَجْهِهِمَا أَتَى بِمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يُجْزِهِ إِلا بِأَنْ يَأْتِيَ بِاسْمِ تَشَهُّدٍ ، وَصَلاةٍ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- . وَإِنْ أَحْسَنَهُمَا فَأَغْفَلَهُمَا ، أَوْ عَمَدَ بِتَرْكِهِمَا فَسَدَتْ صَلاتُهُ ، وَعَلَيْهِ الإِعَادَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَمِنَ الصَّحَابَةِ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ : أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ . وَمِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ : إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ» انتهى من «الموسوعة الفقهية الكويتية» بتصرف.
قلت: أما استدلالهم بحديث تعليمه التشهد فلا يصح لعدم ثبوت ما انتقلوا فيه من الوجوب إلى الاستحباب، وهو قوله : «إن شئت أن تقوم ..» فإنها شاذة كما قرر ذلك الأئمة وهي ليست من قول النبي –صلى الله عليه وسلم- بل موقوفة على عبدالله بن مسعود –رضي الله عنه-، وقد أيَّد حكمَ ابن حبان والدارقطني والبيهقي الشيخُ الألباني -رحمه الله-؛ فقال في : «صحيح أبي داود» - الأم- (4/121)، بعد ذكر حديث التشهد: «قلت: إسناده صحيح، لكن قوله: إذا قلت هذا ... شاذ، أدرجه بعضهم في الحديث! والصواب أنه من قول ابن مسعود موقوفاً عليه، كما قال ابن حبان والدارقطني والبيهقي»، وانظر: «أصل صفة الصلاة»(3/872)، و«التعليقات الحسان» (3/395)، والله أعلم.
(2) عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ: أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله- كما في: «صحيح أبي داود» -الأم-: (373)، وانظر: «المشكاة» (1388)، و«صحيح الترغيب والترهيب» (690).
(3) قال الشيخ الألباني –رحمه الله- في «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» (3/74): « لم أقف على سنده. وإنما علقه البيهقى (3/210) مرسلا فقال: «وروينا عن الزهرى أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم الجمعة دعا فأشار بأصبعه وأمن الناس. ورواه قرة بن عبد الرحمن عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة موصولا, وليس بصحيح»ا.هـ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق