15/08/2024

بحث في صحة أثر منسوب للصحابي الجليل عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-!

 

أرسل إليَّ صديق غزِّيٌّ برسالة نصها:

‏يقول عبدالله بن عمر -رضِي الله عنهما-: شُرِع الجهاد لسفْك دماء المشركين، وشُرِع الرِّباط لصوْن دِماء المسلمين، وصوْنُ دمائِهم أحبُّ إليَّ من سفْك دماءِ أولئك، إنَّ الخطأ في ترْك ألْف كافرٍ في الحياة أهْون من الخطأ في سفْك محجمة دمِ مسلم. [المنتقى شرح الموطأ 3/22].

فبحثت في كون هذا الأثر مرويًا عن عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- بعد الشك في نسبته إليه فطلبت منه التريث في نشره -عنه- حتى أتثبت من الأثر ونسبته، وبعد بحث طويل وجدت أن أول من ذكره هو: أبو محمد عبدالله بن أبي زيد عبدالرحمن النفزي، القيرواني، المالكي (المتوفى سنة: 386هـ) في كتابه: «النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات» رواية عن ابن حبيب عبدالملك بن حبيب السلمي فقيه الأندلس (المتوفى سنة: 238هـ) فقال:

«قال ابن حبيب: وهو شعبة من شعب الجهاد -أي الرباط في سبيل الله في الثغور-، وبقدر خوف أهل ذلك الثغر وبقدر جورهم=(جوارهم) من عدوهم يكون كثرة ثوابكم. (قال ابن عمر): فُرض الجهاد ‌لسفك دماء المشركين والرباط لحقن دماء المسلمين ، وحقن دماء المسلمين أحب إلي من سفك دماء المشركين».

فيحتمل أن يكون قوله: (قال ابن عُمر) من قول ابن حبيب أو من قول صاحب الكتاب القيرواني، وقد ذكره هكذا بلا إسناد عنه -رضي الله عنه- وقد تابعه على هذا بعض فقهاء المالكية -عليهم رحمة الله- ولم أجد هذا القول عن ابن عمر إلا في كُتبهم، فممن ذكر هذا الأثر ونسبه إلى ابن عُمر (جازمًا بنسبته إليه):

1- ابن يونس الصقلي (المتوفى سنة: 451 هـ) في كتابه: «الجامع لمسائل المدونة»، فقال: «وقال ابن عمر:..».

2- أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى سنة: 684هـ) في كتابه: «الذخيرة»، بقوله: «كما قاله عبدالله بن عمر».

وممن رواه بصيغة التمريض من غير جزم بنسبته إليه:

1- أبو الوليد سليمان بن خلف التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى سنة: 474هـ)، في كتابه «المنتقى شرح الموطإ»، بقوله: «وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ..».

2- أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (المتوفى سنة: 520هـ)، في كتابه: «المقدمات الممهدات»، وفي: «البيان والتحصيل»، بقوله: «وقد روي أن عبدالله بن عمر قال..».

ثم وجدت المناوي قد أورده في كتابه: «فيض القدير» عن ابن حبيب إلا أنه قال: «وقال أبو عمرو» ولعله تصحيف ونصه:

«قال ابن حبيب: الرباط شعبة من الجهاد وبقدر خوف ذلك الثغر يكون كثرة الأجر. (وقال أبو عمرو): شرع الجهاد ‌لسفك دماء المشركين وشرع الرباط لصون دماء المسلمين وصون دمائهم أحب إلي من سفك دماء أولئك وهذا يدل على أنه مفضل على الجهاد».

ونقله عنه السيوطي في: «جمع الجوامع المعروف بـ "الجامع الكبير"».

فإن كان هذا الأثر عن ابن عمر -رضي الله عنه- مرويًا من جهة ابن حبيب فإنه لا يصح من جهتين،

الأولى: أن ابن حبيب لم يدرك ابن عمر ولا معروف بالرواية عنه؛ فيكون الحديث منقطعًا في أحسن أحواله.

والثانية: من جهة ضعف ابن حبيب نفسه، فقد ترجم له الذهبي -رحمه الله- في «سير أعلام النبلاء» بقوله:

«الإمام، العلامة، فقيه الأندلس، أبو مروان عبد الملك ‌بن ‌حبيب بن سليمان بن هارون بن جاهمة ابن الصحابي عباس بن مرداس السلمي، العباسي، الأندلسي، القرطبي، المالكي، أحد الأعلام.

ولد: في حياة الإمام مالك، بعد السبعين ومائة.

وكان موصوفا بالحذق في الفقه، كبير الشأن، بعيد الصيت، كثير التصانيف، ((إلا أنه في باب الرواية ليس بمتقن، بل يحمل الحديث تهورًا كيف اتفق، وينقله وِجَادَةً، وإجازة، ولا يتعانى تحرير أصحاب الحديث))».

قال أبو موسى:

فإن كان الأثر مرويًا عن غير ابن حبيب فمن باب أولى أن يثبت ضعفه لجهالة الراوي ولانقطاع السند، ولقد بحثت في الكتب والمسانيد والصحاح وغيرها من كتب الحديث فلم أجد أي أثرٍ له فيها لا عن ابن عمر ولا عن غيره، ولعله قول لبعض أهل العلم من التابعين فنُسب خطأ لابن عمر، ولو كان معروفًا عنه لما تركه جُل الذين كتبوا في ميألة المرابطة في الثغور لأهمية محتواه فإن فيه توجيهًا وحكمة مُهمة افتقر إليها بعض المتهورين من المسلمين اليوم ممن سُفكت دماء المسلمين بسببهم، وصيانة دماء المسلمين أعظم وأحب إلى الله من سفك دماء المشركين و«إنَّ الخطأ في ترْك ألْف كافرٍ في الحياة أهْون من الخطأ في سفْك محجمة دمِ مسلم»!

 وعليه فنسبة هذا الأثر إلى الصحابي الجليل عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- لا تجوز ولا تصح، وإن كان معناه صحيحًا، والله أعلم.

وكتب:

أبو موسى أحمد الغرايبة

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

آمين

11 / 2 / 1446هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق