بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أمر بطاعته، وخوَّف العباد من مغبة عصيانه ومخالفة أمره، وجعل فيهم من يسوسهم ويحمي بيضتهم، وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد:
فإنَّ الشرع الحكيم أمر أمرًا واضحًا لا لُبس فيه بطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وبين سبحانه وتعالى أن ذلك من أسباب الرحمة فقال: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران: ١٣٢]، وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين -مخاطبًا لهم باسم الإيمان- حال التنازع بِرَدِّ الأمر إليه وإلى رسوله ﷺ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [النساء: ٥٩]، وحذَّرهم من التَّولِّي عن طاعته وطاعة رسوله ﷺ فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: ٩٢]، وَبَيَّنَ سبحانه وتعالى أن ترك طاعته وطاعة رسوله ﷺ سبب للتَّنازع والفشل وذهاب الريح، فقال جلَّ وعزَّ : {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦]، وبيَّن تعالى –كذلك- أن الهداية متعلقة بطاعة رسوله ﷺ، وأنه ؛ ليس عليه من تولي الناس عنه جريرة، بل الإثم والجريرة عليهم، وأنَّ الهداية متعلِّقة بطاعته، وما على نبيه ﷺ إلا البلاغ المبين، فقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: ٥٤]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [التغابن: ١٢]، وحَذَّرَهم الله سبحانه وتعالى مِنْ أَنَّ مخالفة أمره وأمر نبيه ﷺ تكون سببًا لحبوط الأعمال، وبطلانها فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد: ٣٣].
ثُمَّ إنَّ الله -تبارك وتعالى- ورسوله ﷺ قد أَمَرَا بعد طاعتهما بطاعة أولياء الأمور من المسلمين، وحذَّر النبيُّ ﷺ أشد التحذير من الخروج على ولاة الأمور وإن جاروا وظلموا، ومن ذلك قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: ٥٩]، وقوله ﷺ فيما أخرجه البخاري في «صحيحه» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
وحذر النَّبي ﷺ أمته مما سيقع لها في آخر الزمان من عدم الاهتداء بهديه، وترك الاستنان بسنَّتِهِ المطهرة، وأنَّه يتولَّى أمورَ المسلمين أناسٌ قلوبهم قلوب الشَّياطين في أبدان بشر، وكل هذه الأوصاف كما هو ظاهر من أوصاف الذَّمِّ الشَّديد، ومع هذا إلا أن النبي ﷺ حثَّ على السَّمْع والطَّاعة، ونهى عن الخروج لما فيه من الشَّرِّ المستطير، وحتى لو وصل الأمر إلى ضرب الظَّهر وأخذ المال، وفي هذا المعنى أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رضي الله عنه- قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ»، قَالَ قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: « تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ؛ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ».
ومع هذا الذي ذُكر إلا أن الشريعة بيَّنت أن ولي الأمر جُنَّة، ولا يجوز نقض بيعته بحال إذا استقر له الأمر، ولا يجوز منازعته ما قدَّره الله له من ولاية أمر المسلمين، بل أمر النبي ﷺ بضرب عنق من ينازع ولي الأمر أمره، وبراءة النبي ﷺ ممن يفعل هذا الفعل الذي هو من كبائر الذنوب، وأنه إن مات بهذا الأمر مات ميتتة جاهليه، فقد أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ النبي ﷺ قال: « إنما الإمام جُنَّة يقاتلُ من ورائه، ويُتَّقى به؛ فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل؛ كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه».
وأخرج الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: « نادى منادي رسول الله ﷺ : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله ﷺ فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحبَّ أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
وفيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنه قال: « من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة فقتل؛ فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس منِّي ولست منه».
وفيه –أيضًا- عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم».
وعلى هذا -أي السمع والطاعة في المنشط والمكره، واليسر والعسر، وعدم منازعة الولاة أمرهم-، انعقد الإجماع فلا يجوز بحال من الأحوال الخروج على ولاة الأمر إلا بضابط واحد وهو ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: دعانا رسول الله ﷺ فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: « إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان».
هذا وقد أمر النبي ﷺ بالصبر على جَوْر الولاة، وحذَّر من تفريق عصا المسلمين، والسَّمع والطاعة في المكره والمنشط، فقال ﷺ فيما أخرجه الإمام البخاري في «صحيحه» من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : قال النبي ﷺ : «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت؛ إلا مات ميتة جاهلية».
وفيه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: « السَّمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة ».
وكذا ما أخرجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: « عليك السَّمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ».
ولا شكَّ أن طاعة الولاة من طاعة الله ورسوله ﷺ، وفيما تقدَّم من الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ بيان شافٍ لهذا الأمر، ومن الأدلة الصريحة على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني ».
ويدخل في قوله « أميري » كل من ولي أمر المسلمين، من برٍّ وفاجر، كما هو معلوم من كلام أهل العلم من السَّلفِ، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فيما كتبوه من عقائدهم.
وقد بينت الشريعة أن لكلٍّ من الأمير والرعية حقوقًا وواجبات على كل واحد القيام بما عليه منها، فالأمير عليه القيام بما أوجبه الله عليه من تحكيم شرعه بين الناس، والقيام بالعدل فيما يحكم به بينهم، وعلى الرعية بالمقابل السمع والطاعة بالمعروف، وعدم الخروج عليه إلا بالضابط المذكور آنفًا، لكي لا تُشق عصا المسلمين ويحصل الفساد العريض بهذا التفريط في حق الإمام، ولا شك عند كل عاقل أن مفاسد الخروج على الولاة عظيمة جسيمة، لهذا نهى الشرع عنها لما في ذلك من سفك للدماء المحرمة، وإزهاق للأرواح المعصومة، وحصول الفساد في الأرض، وإهلاك للحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
وبيَّنت وجوب إعطائهم حقَّهم الذي لهم ، وأن الله سائلهم عمَّا استرعاهم عليه، فقد أخرج الإمام مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه حدَّث عن النبي ﷺ قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: « فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم ».
وفيه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ : « إنها ستكون بعدي أَثَرَةٌ وأمور تُنكرونها »، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منَّا ذلك؟ قال: « تُؤَدُّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ».
ولم يقل ﷺ : اخرجوا عليهم حتى يؤدُّوا حقكم! بل أمر بالسمع والطاعة، وأن نؤدِّي الذي علينا ونسأل الله الذي لنا، وهذا هو الذي تُعصم به الأرواح والدماء من أن تهدر بغير حق، ولقد كره النبي ﷺ مقالة الصحابي الذي سأله عن الأمراء الذين يَسْألون ما لهم من الحقوق، ويمنعون ما عليهم منها، وأعرض النبي ﷺ عن جوابه أكثر من مرة لمَّا ألحَّ بالسؤال، حتَّى هَمَّ بهذا السائلِ الصَّحابيُّ الجليل الأشعث بن قيس -رضي الله عنه-، وهو ما رواه الإمام مسلم في «صحيحه» في باب «طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق» من سؤال سلمة بن يزيد الجعفي -رضي الله عنه- رسول الله ﷺ : يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة؛ فجذبه الأشعث بن قيس، وقال: « اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم » ، وقد رواه الإمام مسلم من قول النبي ﷺ.
وفي قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: ٥٩]، وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [النور: ٥٤]، نصٌّ صريح في الأمر بذلك، فقد قال الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- في «تفسيره :
« قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ } أيها القوم فيما أمركم به، ونهاكم عنه { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فإن طاعته لله طاعة: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يقول: فإن تعرضوا وتدبروا عما أمركم به رسول الله ﷺ، أو نهاكم عنه، وتأبوا أن تذعنوا لحكمه لكم وعليكم : {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } يقول: فإنما عليه فعل ما أمر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم على ما كلَّفه من التبليغ : { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } يقول: وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما ألزمكم، وأوجب عليكم من اتباع رسوله ﷺ ، والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم» اهـ.
والشاهد منه هو قوله : « { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } يقول: وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما ألزمكم، وأوجب عليكم من اتباع رسوله ﷺ ، والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم»، فإن مما أمر به النبي ﷺ طاعة الولاة بالمعروف، وإن جاروا وظلموا، وبدَّلوا وغيَّروا، وإن ضربوا الظهور وأخذوا الأموال، فالسمع والطاعة في المنشط والمكره، وهو مسؤول أمام الله على ما فرط فيه من حقوق الناس.
وهذا معنى قوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } ، فالإمام عليه أداء ما حُمِّل من الولاية، وأنتم أيها الرعية عليكم ما حُمِّلتم من وجوب الطاعة، والله سائل كل أحد عمَّا حَمَّله، { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأعراف: ٣٥].
وقد ساق الإمام ابن جرير الطبري في «تفسيره» الاختلاف في بيان من هم أولوا الأمر وساق طائفة من الآثار في تفسير قوله تعالى: { وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } وبيَّن أن الصَّواب أنهم الولاة والسلاطين فقال-رحمه الله-:
«فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} بطاعة ذَوِي أمرنا كان معلومًا أن الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولَّوْه المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضًا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعيّة، فإن على من أَمَّروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية، وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.» اهـ.
والله تبارك وتعالى قد أمرنا حال التنازع بردِّ الأمر إليه سبحانه وإلى نبيه ﷺ ، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: ٥٩ ] ، وبالردِّ إلى الله والرسول ﷺ عصمة من الزلل والوقوع في الإثم، قال أبو جعفر: « يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه : {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } ، يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم -أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم- فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم، وأما قوله: : {وَالرَّسُولِ } ، فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلًا، فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول ﷺ إن كان حيًا، وإن كان ميتًا فمن سنته : {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله : {وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك؛ فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك؛ فلكم الأليم من العقاب» اهـ.
وفي قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، دلالة على أن من لم يردَّ الأمر حال التنازع إلى الله ورسوله ﷺ ؛ فليس بمؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.
والسلف قد اتَّفقوا على لزوم الطاعة وترك الخروج، وعدم نزع يد من طاعة، وهذا مُسَطر في كتبهم التي صنَّفوها، وعقائدهم التي كتبوها، ونختم بما قاله ابن أبي العز الحنفي : في «شرح العقيدة الطحاوية» : « فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59], كيف قال: وأطيعوا الرسول، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله ﷺ, وأعاد الفعل مع الرسول ﷺ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول ﷺ لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله ﷺ.
وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جَوْرهم، بل في الصبر على جَوْرهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل, قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى: ٣٠], وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: ١٦٥], وقال تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [النساء: ٧٩], وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام: ١٢٩]. فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم» اهـ.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- معلِّقًا على الكلام السابق:
« وفي هذا بيان لطريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم « من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا »، وهو أن يتوب المسلمون إلى ربهم, و يصحِّحُوا عقيدتهم, ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح, وتحقيقًا لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: ١١] ، وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين بقوله: « أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم, تقم لكم على أرضكم »، و ليس طريق الخلاص ما يتوهم بعض الناس , وهو الثورة بالسلاح على الحكام , بواسطة الانقلابات العسكرية , فإنها مع كونها من بدع العصر الحاضر, فهي مخالفة للنصوص الشرعية التي منها الأمر بتغيير ما بالأنفس , و كذلك فلا بد من إصلاح القاعدة لتأسيس البناء عليها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج: ٤٠] » اهـ.
ولله درُّ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- إذ يقول في كتابه «منهاج السنة النبوية» :
«ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلمٌ؛ كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي ﷺ لأن الفساد في القتال والفتنة، أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما» .
وقال –رحمه الله- واصفًا حال الخارجين على ولاتهم بما يحاكي الحاصل في وقتنا الحاضر:
«ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان؛ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته » اهـ.
قال أبو موسى:
فظهر بأن الوالي الظالم الجائر، إمَّا أن يكون (ابتلاءً) للنَّاس، أو (عقوبةً) لهم، فإن كان ابتلاءً فالواجب الشرعي الصبر عليه ودعاء الله ليكشف هذا البلاء، وإن كان عقوبة فالواجب شرعًا التوبة والاستغفار ليرفع الله هذه العقوبة عن الناس، لا أن يقابل الابتلاء والعقوبة باقتراف الذنوب ومعصية الرسول ﷺ ومخالفة أمره، بالخروج على الأئمة والأمراء والإفساد في الأرض بغير الحق.
ألا فليتق الله قوم ملؤوا رؤوس الشباب المسلم بأفكار الخروج على ولاة الأمور، مخالفين لأمر الله وأمر رسوله ﷺ، وإجماع سلف الأمة ، ولْيتوبوا إلى ربهم من هذه البدعة والدعوة إلى الفساد، فقد حُصدت أرواح بريئة بسبب هذا الفكر الذي استطاع أعداء الإسلام اصطياد أقوام من المسلمين به، فاستشرى هذا المرض العضال فيهم فأصبحوا يرونه معروفًا وأجرًا، وهو في حقيقة الأمر منكر وإثم كبير، ولْيتَّعِظ دعاة على أبواب جهنم يدعون الناس إلى هذا الخروج، من غير نظر في مصالح المسلمين العامة، ومن غير اعتبار لحرمة الدماء والأنفس التي أزهقت وتزهق بسبب ذلك، ومن غير اعتبار للفساد العريض الذي يدعون الناس إليه {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: ٢٠٥]، وها نحن قد عايشنا وَيْلات كثيرة بسبب هذا الخروج على الولاة لا يعرف حقيقتها وما تلحقه من ضرر إلا من وقع عليه من شرِّها، وما العراق وما حصل فيها منا ببعيد، فهو إلى الآن ومنذ ثماني سنوات لم يذق أهله طعم الأمان، ولا رائحة الأمن، وما هذا إلا لظنِّهم أنهم بخلعهم وليَّ أمرهم سيجدون الأفضل، وستحصل لهم العدالة، وهذا لا يكون أبدًا فسنَّة الله معلومة فيمَنْ هذه حاله، فكما تكونوا يولَّى عليكم، إلا إن غيَّروا وتابوا وأنابوا إلى ربهم، فلا أمان ولا عدل إلا بإقامة شرع الله في أنفسنا ومعاملاتنا، فإن فعلنا ذلك رجونا أن نكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، فقد قال الله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: ٥٥]، وها هم دعاة الضلال يعودون لدعوة الناس إلى الخروج مرة أخرى، فقد خرج الناس في تونس، وها هم يخرجون في مصر، وقد أفسدوا الحرث والنسل، وبدؤوا بالنَّهب والسرقة والقتل فأتوا بمنكر أكبر بكثير مما كانوا فيه من الظلم مع ما هم فيه من الأمن!
نسأل الله العليَّ العظيم أن يهدي ضال المسلمين، وأن يبصِّرهم بدينهم، وأن يثبتنا على الإسلام والسنَّة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
وكتب
أبو موسى أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة الأردني
لثلاث بقين من شهر صفر سنة 1432 هجرية
في مدينة إربد من جند الأردن
حرسها الله
والحمد لله رب العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق