بسم الله الرحمن الرحيم
« لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأعَاجِمِ »
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصّمد، الّذي لم يلد ولم يولد، والصلاة والسلام على النبيّ الأميّ محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الموعد.
أمّا بعدُ :
الرطانة مصدر من: « رَطَنَ الْعَجَمِيُّ يَرْطُنُ رَطْناً: تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ. والرَّطَانة والرِّطَانة والمُراطَنة: التَّكَلُّمُ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَقَدْ تَراطَنا. تَقُولُ: رأَيت أَعجمين يتراطَنان، وَهُوَ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ الْعَرَبُ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
كَمَا تَراطَنَ فِي حافاتِها الرُّومُ
وَيُقَالُ: مَا رُطَّيْناك هَذِهِ أَي مَا كَلَامُكَ، وَمَا رُطَيْناكَ، بِالتَّخْفِيفِ أَيضاً. وَتَقُولُ: رَطَنْتُ لَهُ رَطانة ورَاطَنْته إِذَا كَلَّمْتُهُ بِالْعَجَمِيَّةِ. وتَراطَنَ القومُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ وَقَالَ طَرَفة بْنُ الْعَبْدِ:
فأَثارَ فارِطُهم غَطَاطاً جُثَّماً ... أَصواتُهم كتَراطُنِ الفُرْسِ
... والتَّراطُنُ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ الْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُواضَعةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَو جَمَاعَةٍ، وَالْعَرَبُ تَخُصُّ بِهَا غَالِبًا كَلَامَ الْعَجَمِ» (لسان العرب: بتصرف).
ولقد ابتُلي المُسلمون اليوم ببلية شنعاء، وطريقة في الكلام خرقاء؛ يخلطون الكلام العربي –على عاميَّته!- مع كلام أعجمي؛ مقلّدين بذلك أعداء الملّة والدِّين بطريقة كلامهم، وما هذا إلا للتَّبعيّة المقيتة لِكُلِّ ما هو غربيٌّ ومستورد، ولقد نُهيَ المسلمون عن التشبُّه بالكفار، سواء بالملبس أو العادات أو الأعياد؛ فقال نبيُّ الهُدى –صلى الله عليه وسلم- : «منْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فهو مِنْهُم»، وهذا الفعل ممّا أحدثه النّاس في زماننا؛ إنما هو مصداق قول نبيِّنا –صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه «الشيخان» عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ قال: «لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟. قال: «فمن؟».
وهذا الاتّباع المذكور في الحديث مذموم -بله محرم- لما فيه من فساد الدِّين والدّنيا، وللأَئِمَّة كلام طويل حول هذا المعنى يبيّنون فيه مفسدة اتّباع هؤلاء، ولا يخفى أن النهي هنا عن كل ما يُفضي إلى الشَّبه بهم مما نهت عنه الشريعة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» (ص:211) وما بعدها:
«فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم؛ دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار، قديمًا وحديثًا، ودخل فيه ما عليه الأعاجم المسلمون، مما لم يكن عليه السّابقون الأوّلون، كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها.
ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم، ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم، ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس، إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدِّين الحنيف، بلوازمه من العربية وغيرها. ومَن نقص مِن العرب إنَّما هو بتخلفهم عن هذا، وإمّا بموافقتهم للعجم، فيما السُّنة أن يخالفوا فيه» اهـ، وهذا تقرير من شيخ الإسلام –رحمه الله- بسُنِّيَّة مخالفة الكفار في كل الوجوه.
ثمّ يتابع شيخ الإسلام كلامه قائلًا:
«وأيضا فإن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغًا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السّابقين إلى هذا الدِّين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدّين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته –أي اللسان- من الدِّين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدِّين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم».
إلى أن قال –رحمه الله-:
«واللسان تقارنه أمور أخرى: من العلوم والأخلاق، فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه، فلهذا أيضًا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين، في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة.
فحاصله: أن النهي عن التشبيه بهم؛ لما يفضي إليه من فوت الفضائل، التي جعلها الله للسابقين الأولين، أو حصول النقائص التي كانت في غيرهم»اهـ بتصرف.
قلت:
فمعلوم أنَّ المشابهة باللسان أبلغ من المشابهة بالملبس وغيره، فإنّك قد تختلط عليك الملابس، ولكن تستطيع تمييز اللسان العربي من غيره من الألسن الأعجمية.. فتأمّل يا رعاك الله!
ونحن اليوم –وللأسف- نرى التّسابق بين أبناء المسلمين للتّشبُّه بالكفار لسانًا ولباسًا وفي الطّعام والشّراب والعادات بل والعبادات! فاللهم سلم.
وفي حكم الخطاب بغير العربية –لغير حاجة- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في كتابه الفذ : «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم»:
«وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهور -كالتّواريخ ونحو ذلك- فهو منهي عنه، مع الجهل بالمعنى، بلا ريب، وأما مع العلم به فكلام أحمد بيِّن في كراهته أيضًا، فإنه كره: آذرماه، ونحوه، ومعناه ليس محرمًا.
وأظنه سُئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية فكرهه وقال: لسان سوء! وهو أيضًا قد أخذ بحديث عمر -رضي الله عنه- الذي فيه النهي عن رطانتهم، وعن شهود أعيادهم، وهذا قول مالك أيضًا؛ فإنه قال: «لا يُحْرِمُ بالعجمية، ولا يدعو بها ولا يحلف بها»، وقال: «نهى عمر عن رطانة الأعاجم»، وقال: «إنها خب»، فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقًا.
وقال الشافعي ... : «سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع: تجارًا، ولم تزل العرب تسميهم التُّجار، ثم سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمي رجل يعرف العربية تاجرًا، إلا تاجرًا، ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئًا بأعجمية، وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد -صلى الله عليه وسلم-: ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها؛ لأنه اللسان الأولى بأن يكون مرغوبًا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية».
فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية، أن يسمي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطًا لها بالعجمية، وهذا الذي قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين»اهـ (بتصرف).
وهذا في زمنهم –رحمهم الله تعالى- فكيف إذا رأوا العُجمة التي نحن فيها، والعربية ! التي نتكلم بها..!!
إذن، فالرّطانة كانت مكروهة عند السلف إلا لحاجة، ولقد استند السلف على هذه الكراهة بأثرٍ روي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال فيه :
« لَا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الْأعَاجِمِ، وَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ ».
والأثر أخرجه عبد الرَّزَّاق الصنعاني في «مُصنّفه» باب (الصَّلاة في البَيْعة) برقم : (1609)، وابن أبي شيبة في «مُصَنَّفه» برقم : (26281)، وكذا في كتاب «الأدب» -لهُ- برقم : (52)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (9/234)، باب : (كراهية الدخول على أهل الذِّمَّة في كنائسهم والتّشبه بهم ..)، -كلُّهم- من طريقين عن عطاء بن دينار، أحدهما يرويه عن عمر –رضي الله عنه- والآخر موقوفًا على عطاء –رحمه الله-.
أمَّا إسناد عبد الرزاق ففيه :
عبد الرزاق عن الثوري عن أبي –كذا- عطاء بن دينار أنَّ عمر بن الخطاب قال: فذكره.
قلت:
كذا وقع عنده : «أبي عطاء بن دينار»، والباقون رووه عن عطاء فلعله تحريف أو إقحام من النُّساخ، وقد تسائل محقق «المصنف» في الحاشية قائلًا: «هل الصواب: عن أبي عن عطاء بن دينار؟»، وسواء كان الصواب عن أبي، أو عن عطاء؛ فيبقى الانقطاع –إن لم نقل الإعضال- موجودًا في سند الأثر؛ فعطاء لم يسمع من عمر –رضي الله عنه- على الصواب ولا سمع ممن هو دون عمر -على الراجح عند علماء الحديث- وهو سعيد بن جبير وإنما كانت صحيفة وجدها وأرسلها عنه.
قال الحافظ المزي –رحمه الله- في «التهذيب»:
« وقال علي بن الحسن الهسنجاني سمعت أحمد بن صالح يقول: عطاء بن دينار من ثقات أهل مصر وتفسيره فيما يروى عن سعيد بن جبير صحيفة وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير، فإن عَبْد الملك بْن مروان كتب يسأل سَعِيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سَعِيد بن جبير بهذا التفسير إليه فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه فأرسله عن سَعِيد بن جبير» اهـ.
والله أعلم.
وأمَّا إسناد البيهقي في «السنن»:
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، أنبأ أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فذكره .
وهذا إسناد صحيح إلى عطاء –فحسب- وقد تقدم الكلام على روايته عن عمر وأنها لا تثبت والله أعلم.
وقد قال شيخ الإسلام –رحمه الله – في «الاقتضاء» :
« وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم: ... » فذكر الأثر، ولعله أراد صحة الإسناد إلى عطاء، والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» على الصواب من رواية وكيع عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار : به، موقوفًا عليه وهو الصواب -إن شاء الله تعالى- بالنَّظر إلى الأسانيد المذكورة آنفًا، والله أعلم.
إلا أنَّه لم يذكر قوله : «يوم عيدهم».
هذا ما يسر الله من الكلام على معنى هذا الأثر وإسناده، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله أعلم.
وصلى اللهم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله ربِّ العالمين
وكتب:
أبو موسى الأردُنِيّ
أحمد بن عيّاش بن موسى الغرايبة
-غفر الله له ولوالديه-
آمين
غُرَّةَ رجب سنة 1432 من الهجرة النبوية المباركة
الزرقاء-الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق