بسم الله الرحمن الرحيم
..:: الكبر والعجب ::..
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله –صلى الله عليه وسلم-.
أمَّا بعدُ:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هُدى محمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ ضلالة في النار..
وبعدُ :
فلقد كانت دعوة الإمام المجدد محدِّث العصر بلا منازع الشيخ العلَّامة محمَّد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- مبنيَّة على أصلين اثنين هما : «التَّصفية» و«التربية»، «تصفيةً» للسُّنَّة مما شابها من ضعيف الأحاديث وسقيمها، و«تربيةً» للمنتسب للسلفية تربيةً أخلاقيةً مستمدَّة من أخلاق منسوبها وصاحب دعوتها –صلى الله عليه وسلم- القائل : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، ونحن لهذه القرون –المذكورة- ننتسب وبنهجهم وطريقتهم نقتدي.. فلا بد على مَنْ كانت هذه حاله أن يتصف بأخلاقهم وآدابهم التي عُرفوا بها –رضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم في جنَّات النعيم-.
وأخلاقهم الحسنة كثيرة ومناقبهم غزيرة تراها مبثوثة في كتب التراجم وغيرها، وفي كتب الأخلاق والرقائق؛ ضاربين أروع الأمثلة في عليِّ الأخلاق وكريمها، وإن مما يجب على السلفي المنتسب لمنهجهم وطريقتهم أن يبتعد عن كل خُلق يُشينه، ويَزدريه عند الناس -عوامهم وخواصهم-، ومن هذه الأخلاق –الخطيرة: (الكبر) –أعاذنا الله منه ومن أهله- وإنَّ ما دفعني لكتابة هذه الكلمات رؤيتي لبعض (المتحزبين) وغيرهم ممن تكبر على قبول الحق ويُكابرُ في ردِّه ومُقاومته بِحُجَجٍ أوهى من بيت العنكبوت، وبجدل «سوفسطائي» مقيت، فكان لزامًا أن أكتب كلمات أُحذر نفسي –وغيري- فيها من هذا المزلق، ومن هذا الخُلق القبيح، راجيًا من الله العلي الكبير أن يعيننا على كريم الأخلاق والفعال، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم..
الكبر لغة:
الكبر لغة اسم كالكبرياء بمعنى العظمة، وهو مأخوذ من مادّة (ك ب ر) الّتي تدلّ على خلاف الصّغر.
قال ابن منظور: الكبر بالكسر: الكبرياء، والكبر العظمة والتّجبّر، وقيل: الرّفعة في الشّرف، وقيل: هي عبارة عن كمال الذّات ولا يوصف بها إلّا الله تعالى.
ويقال: تكبّر، واستكبر، وتكابر. وقيل: تكبّر: من الكبر وتكابر من السّنّ. والتكبّر والاستكبار:
التّعظّم، وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] .
قال الزّجّاج: أي أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي.
قال: ومعنى يتكبّرون: أي أنّهم يرون أنّهم أفضل الخلق، وأنّ لهم من الحقّ ما ليس لغيرهم. وهذه الصّفة لا تكون إلّا لله خاصّة، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي له القدرة والفضل الّذي ليس لأحد مثله.[انظر لسان العرب مادة (ك ب ر)، وغيره].
وقال الغزاليّ في «المقصد الأسنى» :
« هُوَ الَّذِي يرى الْكل حَقِيرًا بِالْإِضَافَة إِلَى ذَاته وَلَا يرى العظمة والكبرياء إِلَّا لنَفسِهِ فَينْظر إِلَى غَيره نظر الْمُلُوك إِلَى العبيد فَإِن كَانَت هَذِه الرُّؤْيَة صَادِقَة كَانَ التكبر حَقًا وَكَانَ صَاحبهَا متكبرا حَقًا وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك على الْإِطْلَاق إِلَّا لله عز وَجل وَإِن كَانَ ذَلِك التكبر والاستعظام بَاطِلا وَلم يكن مَا يرَاهُ من التفرد بالعظمة كَمَا يرَاهُ كَانَ التكبر بَاطِلا ومذموما وكل من رأى العظمة والكبرياء لنَفسِهِ على الْخُصُوص دون غَيره كَانَت رُؤْيَته كَاذِبَة وَنَظره بَاطِلا إِلَّا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
وإنَّ من معاني التكبر الحاصلة عند (بعضهم) تصعير الخد للناس، يقول الشوكاني –رحمه الله- في «فتح القدير» متكلمًا عن هذا المعنى:
« وَالصَّعَرُ: الْمَيْلُ، يُقَالُ صَعَّرَ خَدَّهُ وَصَاعَرَ خَدَّهُ: إِذَا أَمَالَ وَجْهَهُ، وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَالْمَعْنَى: لَا تُعْرِضْ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... مَشَيْنَا إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ نُعَاتِبُهْ
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا:
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا
قَالَ الْهَرَوِيُّ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا، يُقَالُ أَصَابَ الْبَعِيرَ صَعَرٌ: إِذَا أَصَابَهُ دَاءٌ يَلْوِي عُنُقَهُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَلَا تَلْوِ شِدْقَكَ إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ عِنْدَكَ كَأَنَّكَ تَحْتَقِرُهُ».
قال أبو موسى –غفر الله له- :
يالله العجب، كم يصف هذا الكلام حال بعض الناس في زماننا ممن اتَّخذ من (تصعير الخد) طريقًا لاحتقار الناس، أعاذنا الله من الشرِّ كله!
والكبر اصطلاحًا:
هو «الكبر من بطر الحق وغمط الناس» كما في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، وفي رواية: «ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس» [صحيح لغيره كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].
والكبر كما قال الغزاليّ - رحمه الله-: «هو استعظام النّفس، ورؤية قدرها فوق قدر الغير».
وقال أيضًا : «الكبر حالة يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه وأن يرى نفسه أكبر من غيره»، [الإحياء].
وقال التّهانويّ في «الكشاف»: الكبر: «جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها».
وقال غيره: «الكبر هو استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالنّاس واستصغارهم والتّرفّع على من يجب التّواضع له».
والكبر مورده عظيم مُهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدُّنيا فلا بدَّ وأن يُذلَّه الله كما قال –عز وجل- في الحديث القدسي : «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَدْخَلْتُهُ النَّارَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ مُسلم، وفي طريق آخر صحيح –على شرطه-: «الكبرياء ردائي،فمن نازعني ردائي قصمته». [أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وقال الألباني في «الصحيحة»: وهو كما قالا.]
وأمَّا في الآخرة؛ فقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر».
فَـ«المتكبّرون هم الّذين أراد الله أن يضلّهم فجعل صدرهم ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السّماء. فالمتكبّر هو الّذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا، وبقي في العمى فاتّخذ الهوى قائدا والشّيطان دليلا.
فالكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواصّ من الخلق، وقلّما ينفكّ عنه العبّاد والزّهّاد والعلماء فضلًا عن عوامّ الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر» وإنّما صار حجابًا دون الجنّة لأنّه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلّها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنّة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلّها، لأنّه لا يقدر على أن يحبّ للمؤمنين ما يحبّ لنفسه وفيه شيء من الكبر. فما من خُلق ذميم إلّا وصاحب الكبر مضطرّ إليه ليحفظ كبره، وما من خلق محمود إلّا وهو عاجز عنه خوفًا من أن يفوته عزّه. فمن هذا لم يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة منه. والأخلاق الذّميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض لا محالة. وشرّ أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحقّ والانقياد له» [الإحياء بتصرف] .
وللكبر أسباب تتعلق بحسب الوصف بالمُتكَبِّرِ والمُتَكَبَّرِ عليه وآخر متعلق بغيرهما، وهذه الأسباب أربعة هي :
«العجب، والحقد، والحسد، والرّياء»
«أمّا العجب: فإنّه يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التّكبّر الظّاهر في الأعمال والأقوال والأحوال.
وأمّا الحقد: فإنّه يحمل على التّكبّر من غير عجب، كالّذي يتكبّر على من يرى أنّه مثله أو فوقه، ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدًا ورسخ في قلبه بغضه، فهو لذلك لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقّا للتّواضع.
وأمّا الحسد: فإنّه أيضا يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد، ويدعو الحسد أيضًا إلى جحد الحقّ حتّى يمنع من قبول النّصيحة وتعلّم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه حسدًا وبغيًا عليه. فهو يعرض عنه ويتكبّر عليه مع معرفته بأنّه يستحقّ التّواضع بفضل علمه، ولكنّ الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبّرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه.
وأمّا الرّياء: فهو أيضًا يدعو إلى أخلاق المتكبّرين، حتّى إنّ الرّجل ليناظر من يعلم أنّه أفضل منه وليس بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد، ولكن يمتنع من قبول الحقّ منه ولا يتواضع له في الاستفادة خيفة من أن يقول النّاس إنّه أفضل منه فيكون باعثه على التّكبّر عليه الرّياء المجرّد، ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبّر عليه». [المصدر السابق بتصرف نقلا عن موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم*] .
«قال ابن قدامة -رحمه الله-: اعلم: أنّ العلماء والعبّاد في آفة الكبر على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكبر مستقرّا في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيرًا من غيره، إلّا أنّه يجتهد ويتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلّا أنّه قد قطع أغصانها.
الثّانية: أن يظهر لك بأفعاله من التّرفّع في المجالس، والتّقدّم على الأقران، والإنكار على من يقصّر في حقّه، فترى العالم يصعّر خدّه للنّاس كأنّه معرض عنهم، والعابد يعيش ووجهه كأنّه مستقذر لهم، وهذان قد جهلا ما أدّب الله به نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-. حين قال: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء: 215] .
الدّرجة الثّالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدّعاوى والمفاخرة، وتزكية النّفس، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره، وكذلك التّكبّر بالنّسب، فالّذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النّسب وإن كان أرفع منه عملًا.
قال ابن عبّاس: يقول الرّجل للرّجل: أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلّا بالتّقوى. قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات:13] .
وفي الجملة فكلّ ما يمكن أن يعتقد كمالًا، فإن لم يكن في نفسه كمالًا، أمكن أن يُتكبّر به. حتّى إنّ الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمر والفجور لظنّه أنّ ذلك كمالًا» [انظر مختصر منهاج القاصدين].
ومن الآيات الواردة في «الكبر » قوله تعالى:
1- {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} [البقرة:34].
2- {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
3- [قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) } [الأعراف: 75-78].
4- {إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } [النحل:22].
5- ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) [المؤمنون:45-46].
6- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 6-7].
والآيات الواردة في ذم الكبر وأهله كثيرةجدًّا..ومن الأحاديث الواردة في ذمّ (الكبر) ما أخرجه الإمام مسلم –رحمه الله- في «صحيحه» عن حارثة بن وهب- رضي الله عنه- أنّه سمع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟» قالوا: بلى. قال -صلّى الله عليه وسلّم-: «كلّ ضعيف متضعّف. لو أقسم على الله لأبرّه»، ثمّ قال: «ألا أخبركم بأهل النّار؟» قالوا: بلى. قال: «كلّ عتلّ جوّاظ مستكبر».
وقد تقدم قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا يدخل الجنّة من في قلبه خردلة من كبر».
وعن جابر- رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون» ، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقون. فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبّرون»[رواه الترمذي].
والأحاديث في ذمِّ هذا الخلق القبيح كثيرة جدًا، والله يعصمنا من هذه الأخلاق الذميمة.
وروي عن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه-:
«إنّ الرّجل إذا تواضع رفع الله حكمته وقال: انتعش نعشك الله فهو في نفسه صغير وفي أعين النّاس كبير وإذا تكبّر وعدا طوره، رهصه الله في الأرض وقال: اخسأ خسأك الله. فهو في نفسه كبير وفي أعين النّاس حقير حتّى إنّه لأحقر عندهم من الخنزير».
وما أعظم ما أخرجه «مسلم» في صحيحه عن خالد بن عمير العدويّ- رضي الله عنه- قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
«أمّا بعد: فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم وولّت حذّاء. ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء. يتصابّها صاحبها. وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها. فانتقلوا بخير ما بحضرتكم. فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم. فيهوي فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا. والله لتملأنّ.
أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنة. وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام. ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-. ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر. حتّى قرحت أشداقنا. فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتّزرت بنصفها واتّزر سعد بنصفها. فما أصبح اليوم منّا أحد إلّا أصبح أميرا على مصر من الأمصار. وإنّي أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا. وإنّها لم تكن نبوّة قطّ إلّا تناسخت، حتّى يكون آخر عاقبتها ملكًا. فستخبرون وتجرّبون الأمراء بعدنا».
وقال محمّد بن الحسين بن عليّ: «ما دخل قلب امرىء شيء من الكبر قطّ إلّا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك، قلّ أو كثر» [الإحياء] .
وقال مالك بن دينار: «إذا طلب العبد العلم ليعمل به كسره، وإذا طلبه لغير العمل زاده فخرا» [اقتضاء العلم العمل] .
وذكر ابن أبي الدنيا في «التواضع» عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه- أنّه رأى المهلّب- وهو يتبختر في جبّة خزّ فقال: يا عبد الله، هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلّب: أما تعرفني؟ فقال بلى أعرفك؛ أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلّب وترك مشيته تلك.
وروي عن عبد الله بن هبيرة أنّ سلمان سئل عن السّيّئة الّتي لا تنفع معها حسنة؟ قال: «الكبر» ) [التواضع] .
قال أبو عليّ الجوزجانيّ: النّفس معجونة بالكبر والحرص والحسد. فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التّواضع والنّصيحة والقناعة. وإذا أراد الله تعالى به خيرًا لطف به في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التّواضع من نصرة الله تعالى.
وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النّصيحة مع توفيق الله- عزّ وجلّ- وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عزّ وجلّ» [الإحياء] .
قال الماورديّ- رحمه الله- في «أدب الدنيا والدين»:
«الكبر والإعجاب يسلبان الفضائل، ويكسبان الرّذائل وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح، ولا قبول لتأديب، لأنّ الكبر يكون بالمنزلة، والعجب يكون بالفضيلة، فالمتكبّر يجلّ نفسه عن رتبة المتعلّمين [!]، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدّبين [!!]».
قال الإمام ابن القيّم- رحمه الله- في «الفوائد»: «أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشّهوة».
وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله- في «الفتح»:
«الكبر الحالة الّتي يختصّ بها الإنسان من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبّر على ربّه بأن يمتنع من قبول الحقّ والإذعان له بالتّوحيد والطّاعة.
والتّكبّر يأتي على وجهين: أحدهما: أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير، ومن ثمّ وصف سبحانه وتعالى بالمتكبّر.
والثّاني: أن يكون متكلّفا لذلك متشبّعا بما ليس فيه، وهو وصف عامّة النّاس نحو قوله {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} والمستكبر: مثله» .
قال الشّاعر:
وإن أفادك إنسان بفائدة ... من العلوم فلازم شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالحة ... أفادنيها ودعك الكبر والحسدا.
وذكر الماوردي في «أدب الدنيا والدين» عن بعض الشّعراء يصف الإنسان فقال:
يا مظهر الكبر إعجابا بصورته ... انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب
لو فكّر النّاس فيما في بطونهم ... ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب
هل في ابن آدم مثل الرّأس مكرمة ... وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك ... والعين مرفضّة والثّغر ملعوب
يا بن التّراب ومأكول التّراب غدا ... أقصر فإنّك مأكول ومشروب.
وختامًا:
فإنَّ للكبر مضارًّا كبيرة وكثيرة نذكر منها :
«(1) طريق موصّل إلى غضب الله وسخطه.
(2) دليل سفول النّفس وانحطاطها.
(3) يورث البعد عن الله والبعد عن النّاس.
(4) الشّعور بالعزلة وضيق النّفس وقلقها.
(5) اشمئزاز النّاس منه وتفرّقهم من حوله.
(6) استحقاق العذاب في النّار.
(7) هلاك النّفس وذهاب البركة من العمر.
(8) الكبر من الأسباب الّتي تبعد المتكبّر عن طاعة الله عزّ وجلّ.
(9) جزاء المتكبّر الطّرد من رحمة الله.
(10) المتكبّرون يصرفهم الله عزّ وجلّ عن آياته فتعمى بصائرهم ولا يرون الحقّ».
فنسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يقينا شر أنفسنا وأن يُعيذنا من الكبر وأهله، ومن كل ما يوصل إليه من الأقوال والأعمال، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله ربِّ العالمين
وكتب:
أبو موسى الأردنيّ
أحمد بن عيَّاشٍ بن موسى الغرايبة
-غفر الله له ولوالديه-
آمين
لثنتين بقين من شهر جمادى الآخرة سنة 1432 من الهجرة
الزرقاء-الأردن
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملاحظة: لقد استفدت أكثر مادة هذا المقال من كتاب «موسوعة نضرة النعيم في أخلاق الرسول الكريم»، مع تصرف وزيادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق