24/06/2011

:: مناقشة عقلية مع الطاعنين في الصحابة ::


بسم الله الرحمن الرحيم

:: مناقشة عقلية مع الطاعنين في الصحابة ::

..:ذو العقل يشقى:..

          الحمد لله والصلاة والسّلام على رسول الله..

          أمّا بعد :

          كثيرٌ هُم الطّاعنون بطلبة العلم بغير حق، بالكذب والزّور والبُهتان تارةً، وبالتلبيس والتّدليس تارةً أخرى، وقد لا يقوم الطّاعن بذلك بنفسه ولكن بتكليف غيره ممّن هو مفتون به من أصحاب الألسنة التي تقطر سُمًّا، والأقلام المأجورة الرخيصة التي تزوِّر الباطل ( التزوير: التزويق والتحسين، والمُزَوَّرُ من الكلام والخط: المُزَوَّقُ المُحَسَّنُ ) وتزويرهم هذا إنّما يكون بطرح الشُبه الهزيلة، والتُّهم الباطلة، لا يريدون بذلك نُصرة الحق وأهله بل لجعل صورة الباطل نضرة باهية تلبيسًا على الناس ممن لا يعرف حقائق الأمور.. بله حقائق الأشخاص..

          وكم سمعنا تُرّهات وقرأناها لم يكن فيها إلا القيل والقال، من غير دليل -ولا برهان- نقلي فضلاً عن أن يكون عقليًا، وفي ذلك قال الشاعر:

والدعاوى ما لم تُقيموا عليها ..... بيِّناتٍ أبـناؤها أدعـياءُ

          لكنّ هذه البيِّنات قد لا تكون دائمًا نقليّة معتمدة على الدليل المحسوس، بحيث يتطلب الأمر إعمال العقل في الردّ على العقلانيين = (الحمقى) بما يفهمونه من لغة العقل، وإن كانوا أكثر الوقت لا يلتزمون ما يريدون إلزام الناس به (!)..

..:: ذو  العقل يشقى ::..

          مقال للأديب الفذّ الشيخ محمود شاكر –رحمه الله-، يردُّ فيه على أحد الأدعياء الذين قدمتُ بعض صفاتهم التي يتّصفون بها حقًّا وصدقًا –هم ومن يشبههم من رواد الكلمة في كل مكان-، ألا وهو المدعو : (محمد رجب البيومي) والذي كان كالمأجور بدفاعه عن (سيد قطب) لمَّا طعن في الصحابة الكرام، فقام الشيخ –رحمه الله- بِكَتْبِ مقاله في مجلة (الرّسالة) سنة : 1952، (ذو العقل يشقى) ردَّ فيه على (الدَّعي وشيخه).

          ولا بأس بأن أورد بعض ما لبّس به هذا الدّعي مُدافعًا بالباطل عن (قطب) فأورد على الشيخ شاكر –رحمه الله- أسئلة قبيحة لم يمتلك الشيخ شاكر السكوت عن سائلها – ومن قبلُ على مُوْردها=(قطب)-، ومنها:

          « من الذي ينكر أن معاوية حين صيَّر الخلافة ملكًا عضودًا لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية؟

           ومن الذي ينكر أن بني أمية بصفة عامة لم يعمر الإيمان قلوبها، وما كان الإسلام لها إلا رداءً تلبسه وتخلعه حسب المصالح والملابسات...؟ ».

          إلى أن قال الدَّعي :

          « هذه وأمثالها أمور مسلمة في التاريخ، لا يستطيع الأستاذ شاكر أن ينكرها بحال. ونحن نعجب كثيرًا حين نجده في مقاله يلبس مسوح الوعظ والإرشاد... »، فكان الردّ من الشيخ شاكر مُفحمًا له ولمن يمشي على مِنواله ممن سيأتي أو أتى بعده، فقال:

          « نعم يا سيّدي الشيخ! نعم! فإنيّ لمحدّثُكَ عمّنْ يُنْكِرُها: أنا أنكِرُ هذا كلَّه و ينُكره المؤمنون من قبلي، و إذا كنتَ أنتَ و صَاحِبُكَ [ يعني سيد قطب ] تُسلّمان بها، فأنا لا أستطيع أنْ أسلم بها.

وتقول: هذه دعوى ليس عليها بينّة! فأقول:نعم، هي في هذا السياق وليس عليها بينة، إلا أنْ آتيكَ بالدليل على بطلان ما ذهبَ إليه صاحبُك الذي تولّيتَ الدفاعَ عنه.

بَيْدَ أنكَ أسأتَ حين عجلتَ إلى شيءٍ لم تعرف ماذا أقولُ فيه، وكيف أستطيع أنْ أتناولَه بالنقد والتمحيص، ولو أنتَ صبرتَ حتى تعرفَ لأتاك البيان عمّا أنكرت وما عرفت من أخبار صاحبِكَ، التي وصفتَها بأنها متلقفة من أطراف الكتب، لا أقول بلا تمحيص وحسب، بل أقول أيضًا بالحِرص الشديد على تتبّعِ المثالب القبيحة، وبالحرص المتلهف على اجتنابِ المناقب الفاضلة، و بالغلوِّ الأرعن في سياقِ المثالب وفي تفسيرها، و في تجليتها، و في استخراج النتائج من مقدماتٍ لا تنتجها، كما يقول أصحاب المنطق ».

وإلى هنا كانت المقدمة من الشيخ شاكر تحتوي على أمور يجب أن ننبه أنفسنا عليها في سياق (النقد الذاتي) لنربأ بأنفسنا عن الوقوع فيها وهي:

1.    عدم العجلة في الحكم على ما سيقوله المخالف مما قد يطرح من الأسئلة في مَعرض إيراد الدّعاوى.

2.    الصّبر على المخالف حتى يبيّن ما لديه أو ما عليه.

3.    عدم الحرص على تتبع المثالب القبيحة تلبيسًا وتدليسًا على القارئين.

4.    عدم الغلو في سياق المثالب وتفسيرها بما يروق للطّاعن.

5.    عدم استخراج نتائج من مقدمات مفترضة لا تنتج عنها أصلاً.

ثمّ انتقل الشيخ شاكر مع (بيومي) مُناظرًا مُتَنزلًّا معه فيما لمز الشيخ به فقال رحمه الله:

« وأنا أحبُّ أنْ أخلعَ معك مُسوحَ الوعظ والإرشاد خلعًا لا رجعة بعده! فتعالَ أيها الشيخُ إلى غير واعظٍ ولا مُرشد! تعالَ حدِّثني وأحدثك، ودَعْنِي ودَعْكَ مِنْ:«قال الله تعالى» و«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فإنهما في زماننا هذا - من مسوح المتديّنين بلا دين!- [ قلت: وهذا قاله الشيخ مُتهكّمًا على بيومي وإلا فلا يظن ظانٌّ أنه ليس عنده اعتبار لذلك ] دعنا نعرف الكتبَ التي بين أيدينا لا نرفع بعضاً ولا نضع بعضاً، لأنّ هذه كتبُ تاريخ لا يُوَثق بها، ولأنّ هذه كتُب أصحابِ دينٍ ووعظ وإرشاد يوثق بها! ثم ننظرُ بعدئذٍ بالعقل المجرد ماذا يكون؟!».

وفي هذا الكلام من الشيخ شاكر – رحمه الله – سحب لـ (بيومي) إلى الحجة العقلية التي أراد مناظرته بها فأردف قائلاً:

« ودعني أيها السيد أعيدُ عليك ما قلتَ في مقالك: « ونحن نُقِرُّ أنّ معاوية كان حَسَنَ السِّيرة على عهد عمر، فولاه أعمال دمشق، ولكنه قلب المجن للتعاليم الاسلامية بعد مصرع عثمان...»، ولا أسألك مِن أين علمتَ أنه كان حسنَ السيرة على عهد عمر؟

ولكني أسألك: ألستَ تعلم أنه قد نشبَ الخلافَ بينه وبين علي؟ فتقول: نعم ولا بد.

ثم أسألكَ: ألستَ تعلم أنه كان لهذا شيعة ولذاك شيعة؟ فتقول:نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنّ كل شيعة قد غَلَتْ في صاحبِها و تعصّبت له؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنّ الأمرَ حين انتهى إلى معاوية واجتمعَ عليه الناسُ في عام الجماعة إذ أسلمَ إليه الحسن أمرَ الخلافة؛ لم تزل شيعةُ عليٍّ باقيةً في الناس كشيعة معاوية؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألك: ألستَ تعلم أنَّ الخلافَ بين الشيعَتَين ظَلَّ مستمراً مدةَ بقاءِ معاوية ومن بعده؟ فتقول: نعم ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنّ الحُسين بن علي قُتِل في عهد يزيد بن معاوية؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ:ألستَ تعلم أنّ مقتلَ الحسين وما تبعه من الحوادث في عهد يزيد بن معاوية قد أوقدَ نارَ العداوة بين شيعة علي وشيعة معاوية؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنَّ شيعة كل منهما قد انتشرت في الناس بما بينهما من العداوة؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنَّ مِن هاتين الشيعتَين العالم والجاهل؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألك: ألستَ تعلم أنّ كلَّ عالم أو جاهل كان يُحدِّث عن خَبَرِ شيعته وخبرِ شيعة عدوِّه؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ ألستَ تعلم أنّ هذه الأخبار ربما كان فيها الصّحيح والسقيم والصادق والمكذوب كما يكون في كل شيعتَين متنابزَتَين؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسلكَ: ألستَ تعلم أنّ الأمرَ سارَ على ذلك إلى ما بعدَ انقضاءِ دولة بني أمية؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنها استمرت إذن على ذلك منذ سنة 40 من الهجرة إلى وقتِ تدوين الكتب، أي في أواخر القرن الأول؟ فتقول:نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنه ليس في أيدي الناس كتابٌ مكتوب قبل ذلك العهد؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ:ألست تعلم أنّ طريقَ القوم كان هو الرواية فحسب؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم عندئذ أنّ العقلَ يوجب أنْ تَعْرِفَ راوي كلّ خبر حتى تتبين من أي الشيعتَين هو؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فأسألكَ: ألستَ تعلم أنه ظلمٌ قبيح أنْ تأخُذَ الخبرَ لا تدري مَنْ رواه، فتطعَن به في أحد الرَّجلين، معاوية أو علي، وأنت لا تأمن أنْ يكون كذبًا صرفًا؟ فتقول: نعم، ولا بد.

فإذا صحَّ كلّ هذا عندك ولم تشغب عليّ فيه، فإني أراكَ رجلاً صالحًا، فهل تظنّ، ولا أقول هل تَحَقَّقَ عندكَ، أنّ هذا الطّعَّان في معاوية وأهلِه، قد ميّزَ هذا كلَّه قبل أنْ يكتبَ ما كتب؟ فإنْ كان قد صحَّ لكَ، فأنا أحبُّ أنْ أعلمَ كيف صحَّ لك، حتى أتبعكَ على الحق. وإنْ لم يكن صَحَّ عندك، وهو لم يَصِحّ عندي بعد، فدعني عند قولي لك: أنا أُنْكِرُ هذا كلَّه وينكره المؤمنون من قبلي، واذكرني دائماً بأني لا أعدُّ أمثالَ هذه الروايات المجردة من رواتها، وفي مثل هذا الموضع المشتبه من العداوات، شيئا يمكن أنْ أسلِّمَ به.

فإني لا أحبُّ أنْ أستهلكَ عقلي في العبث و الجهالات.

واعلَمْ أني لا أنْقَادُ لما لا بيّنة عليه، وأنّ للعقل شرفاً لا يرضى معه بالتدهور في مواطئ الغفلة وسوء الأدب. ولو أنتَ لم تعجل لكان البيانُ آتيك بعد قليل عن الذي أستطيعه من ذلك وما لا أستطيعه، غفر الله لك، أقولهُا خالصةً من قلبي، بلا مسوح وعظ أو إرشاد!

وأنا أخذتكَ من أهونِ المآخِذ في طريق العقل، فهناك طرقٌ أخرى أشقُّ وأصعب في تمييزِ هذا العبث لم أَدْفَعْكَ إليها، وأرجُو أنْ تصبِرَ حتى تعرفَها يوما، أو أن تحاولَ أنت أن تصِلَ إليها بما أوتيت من حسن العقل، فإنّ المحاولة خليقَةٌ أن تفضي بك إليها. ولكن شرطها أنْ تدَعَ العصبِيّةَ لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يَبْنُونَ أقوالهَم على الغُلُوِّ والتسرع وسوءِ الفهم، وقبح المقصد، ومعاندةِ الحق لهوًى في النفوس يعلمُه اللهُ وحده، و لكن يدلُّ مطلعُه على أنه هوى » اهـ. (جمهرة مقالات الشيخ شاكر): (1/569-570).

فعلينا عباد الله بعد هذا أن نتحلّى بما قاله الشيخ شاكر - رحمه الله – من ترك « العصبِيّةَ لآراء الرجال، وبخاصة إذا كان هؤلاء الرجال ممن يَبْنُونَ أقوالهَم على الغُلُوِّ والتسرع وسوءِ الفهم، وقبح المقصد، ومعاندةِ الحق لهوًى في النفوس يعلمُه اللهُ وحده، و لكن يدلُّ مطلعُه على أنه هوى».

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنّا سيء الأخلاق فإنه لا يصرف سيء الأخلاق إلا أنت، والله أعلم.

وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

وكتب:

أبو موسى الأردني

أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة

20/3/1432

والحمد لله رب العالمين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق