بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
..:: النهي عن السفر بالمصحف إلى بلاد الكفار ::..
غاينزفيل (الولايات المتحدة) (ا ف ب) - اشرف مبشر إنجيلي أميركي مثير للجدل على إحراق نسخة من القرآن في كنيسة صغيرة في فلوريدا بعدما اعتبر أن المصحف الكريم "مسؤول" عند عدة جرائم.
وقام القس واين ساب بإحراق نسخة من القرآن تحت إشراف تيري جونز الذي أثار في أيلول/سبتمبر الماضي موجة من الإدانات بشأن خطته لإحراق كومة من نسخ القرآن في ذكرى هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
وقال المنظمون أن ما حدث الأحد كان "محاكمة" للقرآن اعتبر فيها كتاب المسلمين المقدس "مذنبا" و"تم إعدامه".
وقد استمرت مداولات "هيئة المحلفين" حوالي ثماني دقائق وضعت بعدها نسخة القرآن التي كانت قد نقعت بالوقود لمدة ساعة، على طبق حديدي في وسط الكنيسة وأشعل فيها ساب النار.
واحترق القرآن لمدة عشر دقائق فيما التقط بعض الحضور الصور.
وكان جونز أثار موجة من الاحتجاجات والإدانات من الكثير من الأطراف بينهم الرئيس الأميركي باراك اوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع روبرت غيتس بسبب خطته لإحراق المصحف الكريم في أيلول/سسبتمبر الماضي. ولم ينفذ خطته هذه في نهاية المطاف وتعهد عدم القيام بها أبدا.
إلا انه قال انه أراد هذه المرة "أن يعطي العالم الإسلامي فرصة للدفاع عن كتابه" ولكنه لم يحصل على أي جواب. وأوضح انه يعتبر أن لا محاكمة فعلية من دون عقاب فعلي.
وكان الحدث مفتوحا أمام الجمهور إلا أن اقل من ثلاثين شخصا تواجدوا في الكنيسة.
وتتمحور الحياة في مدينة غاينزفيل الهادئة على جامعة فلوريدا. وقد شهدت المدينة احتجاجات عامة حول ما كان جونز ينوي القيام به في ذكرى 11 أيلول/سبتمبر إلا انه تم تجاهل ما حدث الأحد بشكل كبير.
وأعربت جادويجا شاتز التي أتت لدعم جونز عن قلقها من توسع الإسلام في أوروبا. وأوضحت "هؤلاء الأشخاص هم وحوش بالنسبة لي وأنا اكرههم".
واعتبر جونز أن ما حدث كان "ناجحا"، موضحا "أنها تجربة فريدة في حياة الإنسان".
**********************
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أمّا بعد :
فإنّ مما لا شك فيه اليوم أن المسلمين يعيشون في مرحلة من الذل والهوان الناجم عن ترك ما أمر الله به ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، فنتج عن ذلك رفع المهابة من صدور أعداء هذا الدين، وتكالب الأمم على أهل الإسلام، وليس هذا من الأمور المستغربِ حدوثها لهذه الأمّة فقد أخبر الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم- عن هذا فقال فيما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "، وقال –عليه السلام- فيما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود في سننه عن ثوبان –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" قيل : يا رسول الله ! فمن قلة يومئذ ؟ قال : "لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت".
ولِما علمه نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه مما ستصل إليه حالنا في هذه الأزمان حذرنا تحذيرًا واضحًا من السفر بالقرآن إلى بلاد الكفار فقال فيما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ".
وفي لفظ مسلم : "أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو".
قال أبو موسى غفر الله له : إذن قد خاف النبي –صلى الله عليه وسلم- أن ينال أعداء الإسلام من القرآن فنهى عن السفر به إلى ديارهم، وفي قوله : " مخافة أن يناله العدو " تعليل للنهي المذكور، فإن من حقد الكفار على هذه الأمة أن حسدتها على ما حباها الله به من هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو محفوظ بحفظ الله -تبارك وتعالى- له إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهذا الحقد هو الدافع لهم –قاتلهم الله- إلى النيل من هذا الكتاب بالأذى تارة وبالتشكيك أخرى، وبالحرق والتمزيق ... إلخ.
وهذا النهي كما هو واضح مقيد بالخوف فإن أمن -الذاهب بالمصحف إلى ديارهم- على القرآن جاز له أن يذهب به وفي هذا يقول أبو حاتم ابن حبان –رحمه الله- في "صحيحه" : "في قوله : " مخافة أن يناله العدو " بيان واضح أن العدو إذا كان فيهم ضعف وقلة، والمسلمون فيهم قوة وكثرة ثم سافر أحدهم بالقرآن وهو في وسط الجيش يأمن أن لا يقع ذلك في أيدي العدو كان استعمال ذلك الفعل مباحًا له، ومتى أيس مما وصفنا لم يجز له السفر بالقرآن إلى دار الحرب".اهـ.
وقال الطحاوي –رحمه الله- في كتابه : "شرح مشكل الآثار" : " أجل ؛ عِنْدَنَا أَنَّ الْخَوْفَ الذي في هذه الأَحَادِيثِ على الْقُرْآنِ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ حتى نهى عن السَّفَرِ بِهِ إلَى دَارِهِمْ من أَجْلِهِ من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ... وقد اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ في السَّفَرِ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى إبَاحَةِ ذلك منهم أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بن الْحَسَنِ ... وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى كَرَاهَةِ ذلك وقد رُوِيَ هذا الْقَوْلُ عن مَالِكِ بن أَنَسٍ وَذَهَبَ محمد بن الْحَسَنِ بِآخِرِهِ في سِيَرِهِ الْكَبِيرِ إلَى أَنَّهُ إنْ كان مَأْمُونًا عليه من الْعَدُوِّ فَلاَ بَأْسَ بِالسَّفَرِ بِهِ إلَى أَرْضِهِمْ وَإِنْ كان مَخُوفًا عليه منهم فَلاَ يَنْبَغِي السَّفَرُ بِهِ إلَى أَرْضِهِمْ ولم يَحْكِ هُنَاكَ خِلاَفًا في ذلك بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدٍ من أَصْحَابِهِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ما في الرِّوَايَةِ الأولى التي رَوَيْنَاهَا من إبَاحَةِ السَّفَرِ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ عِنْدَ الأَمَانِ عليه من الْعَدُوِّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ ما قِيلَ في هذا الْبَابِ وَاَللَّهَ تَعَالَى نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ".ا.هـ مختصرًا.
وقال النووي –رحمه الله- في شرحه على مسلم : " ( باب النهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم )
قوله ( نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ) وفى الرواية الأخرى (مخافة أن يناله العدو) وفى الرواية الأخرى (فإني لا آمن أن يناله العدو) فيه النهى عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته، فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون، وقال مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا والصحيح عنه ما سبق وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك" ا.هـ.
ولا شك أن ما نحن فيه من الوهن يقتضي اتباع هذا التوجيه النبوي الكريم والتزامه، وقد رأيت ما فعله هذا القس (النجس) من حرقه للمصحف والله المستعان.
اللهم ردّ الأمّة إلى دينها الحق الصافي ردًّا جميلًا وأعز دينك وانصر أهله
إنّك أنت ولي ذلك والقادر عليه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
وكتب
أبو موسى الأردني
أحمد بن عيّاش بن موسى الغرايبة
17/ربيع الثاني/1432
فائدة:
قال الشيخ عبد المحسن العباد –حفظه الله- في شرحه لسنن أبي داود :
" وهنا قال في الترجمة: المصحف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (القرآن) كما في الحديث، وذلك أن المصحف إنما وجد في زمن عثمان رضي الله عنه؛ لأنه جمع القرآن وجعله في مصحف، فصاروا يعبرون عنه بالمصحف، وفي التراجم يأتون بلفظ المصحف، وإلا فالحديث جاء بالقرآن أنه لا يسافر به إلى أرض العدو؛ لأن المصحف إنما وجد في زمن عثمان ، وقبل ذلك ما كان يوجد مصحف، وقبل زمن أبي بكر ما كان مجموعاً، ولكنه جمع مرتين، مرة في عهد أبي بكر في صُحف، فجمَع كل شيء يتعلق بالقرآن في عهده. وفي زمن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد، وأحرق ما سوى ذلك حتى لا يختلفوا....".
فتوى:
ورد في الفتوى رقم : (2358) في "مجلة البحوث الإسلامية" - (44 / 118) ما يلي:
( حمل المصحف إلى بلد يهان فيه )
السؤال : هل يجوز حمل المصحف - القرآن - إلى بلاد الكفار ؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة على رسوله وآله وصحبه . . . وبعد :
الجواب : حمل المسلم المصحف - القرآن - إلى بلاد الكفار من المسائل التي اختلف الفقهاء في حكمها ، فقال جماعة منهم بجواز حمله إلى بلادهم، وقال آخرون بمنع ذلك ؛ لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن السفر به إلى بلادهم ؛ خشية أن يمتهنوه ، أو يحرفوه ، أو يشبهوا على المسلمين فيه ، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما « أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو » ، وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » ، « لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو » .
وقال آخرون : يجوز حمله إلى بلادهم للبلاغ وإقامة الحجة عليهم ، وللتحفظ والتفهم لأحكامه عند الحاجة إذا كان للمسلمين قوة ، أو سلطان ، أو ما يقوم مقامهما من العهود والمواثيق ، ونحو ذلك مما يكفل حفظه ويرجى معه التمكن من الانتفاع به في البلاغ والحفظ والدراسة ، ويؤيد ذلك ما ورد في آخر حديث النهي عن السفر به إلى بلادهم من التعليل ، وهذا الأخير هو الأرجح ، لحصول المصلحة مع انتفاء المفسدة التي خشيها النبي صلى الله عليه وسلم .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق