24/06/2011

..:: السفاهة والطيش ::..


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى..

أَمَّا بَعْدُ :

فإن الساحة (الإلكترونية = الشبكة العنكبوتية) لا تكاد تخلو من سفهاء يقحمون أُنوفهم (المزكومة) بأمور هُم عنها -وعن فَهْمِهَا- بمعزل، يَظهرون بين الفَينة والأخرى، مثيرين –بسفاهتهم وطيشهم- الفتن والقلاقل، لا لشيءٍ؛ وإنما لشفاء ما في صدورهم من الغل على إخوانهم، وحسدًا من عند أنفسهم –هداهم الله- وأرشدهم إلى مراشد الأمور..

وهؤلاء إنما يفعلون ذلك لوجود صفتين –قبيحتين- ملازمتين لهم على الدوام، هما :

..:: السَّفَاهَةُ ::و:: الطَّيْشُ ::..

ولمّا كان على المنتسب إلى منهج السلف الصالح –رضي الله عنهم- أن يظهر بأفضل صورة وَأَحسن خلُقٍ، كان لزامًا على الرجل –والمرأة- مِنَّا أن يبتعد عن هذين الخلقين الذميمين القبيحين، متَّبعين بذلك ما كان عليه الأسلاف من الحكمة والأناة، والنظر في عواقب الأقوال والأفعال..

فَهُم –رحمهم الله-  كانوا على صورة حسنة في كل حال من أحوالهم، ويظهر هذا جليًّا في أقوالهم وأفعالهم التي اتُّخِذت –بعدهُم- (منهاجًا) قويمًا سار عليه الناس -سلفًا وخلفًا- مِمَّن مَنَّ الله عليه بمعرفة هذا المنهج والسير في ركب أهله..

ولكي تحذر أخي السلفي –الكريم- من الوقوع في هذين الخلقين الذميمين جَمَعْتُ لك شيئًا أرجو أن يكون فيه الفائدة والخير..

فأقول –وبالله وحده أتأيَّد- :

إنَّ السفاهة لغة، مصدرٌ من قولهم : سَفِهَ فلانٌ، إذا صار سفيهًا، وهو مأخوذ من مادة ( س ف هـ )، التي تدلُّ على (الخفة والسَّخافة)، والسّفه ضدّ الحلم، وقال بعضهم : أصل السّفه : خفّة الحلم. ثمّ استُعمل في خفّة النّفس لنقصان العقل، وقيل: أصل السّفه الخفّة والحركة والطّيش، وقيل: الجهل والاضطراب.

وسفه علينا وسفه «بالكسر والضّمّ» إذا جهل فهو سفيه، أي جاهل، والسّفيه أيضًا: ( الخفيف العقل ).

وجمع السّفيه سفهاء وسُفَّاه، والأنثى سفيهة وجمعها سفيهات وسفائه وسفه وسفاه، وقولهم: سفّه الجهل حلمه: أطاشه وأخفّه .

السفاهة اصطلاحًا :

يقول صاحب كتاب «تهذيب الأخلاق» في تعريف السّفه أنَّه : «نقيض الحلم وهو سرعة الغضب، والطّيش من يسير الأمور، والمبادرة في البطش، والإيقاع بالمؤذي، والسّرف في العقوبة، وإظهار الجزع من أدنى ضرر، والسّبّ الفاحش».

وقال الجُرجانيّ : «السّفه عبارة عن خفّة تعرض للإنسان من الفرح والغضب فيحمله ذلك على العمل بخلاف العقل وموجب الشّرع» [انظر: التعريفات] .

وقال المُناويُّ في تعريف (السَّفاهة): « السّفاهة: خفّة الرّأي » [التعريف-باختصار] .

قلتُ :

ويكون السفه في أمور الدنيا وفي أمور الآخرة، ومن أمور السفه الدنيوية ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز بقوله : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ } [النساء: 5]، وهذا النوع من السّفه يكون « عبارة عن التّصرّف في المال بخلاف مقتضى الشّرع والعقل؛ بالتّبذير فيه والإسراف- مع قيام خفّة العقل- والسّفيه إذن: هو من ينفق ماله فيما لا ينبغي من وجوه التّبذير، ولا يمكنه إصلاحه بالتّمييز والتّصرّف فيه بالتّدبير» [انظر: الكليات للكفوي] .

وأمَّا ما يتعلق بأمور الآخرة فله أمثلة كثيرة من أبرزها: القول على الله بغير علم، ومنه قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ}[البقرة: 13]، قال الإمام ابن كثير –رحمه الله- في تفسير هذه الآية :

« يَعْنُونَ -لَعَنَهُمُ اللَّهُ-أصحابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ يَقُولُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ، يَقُولُونَ: أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمْ سُفَهَاءُ!!

وَالسُّفَهَاءُ: جَمْعُ سَفِيهٍ، كَمَا أَنَّ الْحُكَمَاءَ جَمْعُ حَكِيمٍ [وَالْحُلَمَاءَ جَمْعُ حَلِيمٍ] وَالسَّفِيهُ: هُوَ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النِّسَاءِ: 5] قَالَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.

وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ، سُبْحَانَهُ، جَوَابَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَقَالَ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فَأَكَّدَ وَحَصَرَ السَّفَاهَةَ فِيهِمْ.

{وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي: وَمِنْ تَمَامِ جَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ، وَذَلِكَ أَرْدَى لَهُمْ وَأَبْلَغُ فِي الْعَمَى، وَالْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى» اهـ .

والسّفيه بهذا المعنى هو كما وصفه الكفويّ في «الكليات» :

« ظاهر الجهل، عديم العقل، خفيف اللّبّ، ضعيف الرّأي، رديء الفهم، مستخفّ القدر، سريع الذّنب، حقير النّفس، مخدوع الشّيطان، أسير الطّغيان، دائم العصيان، ملازم الكفران، لا يبالي بما كان، ولا بما هو كائن أو سوف يكون».

ومن الآثار الواردة في معنى السّفاهة وذمِّ أصحابها، ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» برقم:(7899) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-:

«إنّها ستأتي على النّاس سنون خدّاعة، يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصّادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرّويبضة» قيل: وما الرّويبضة؟.

قال: «السّفيه يتكلّم في أمر العامّة».  [قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح].

ومنها أيضًا ما رواه الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «ضاف ضيفٌ رجلًا من بني إسرائيل وفي داره كلبة مجحّ [أي: حامل قربت ولادتها]، فقالت الكلبة: والله لا أنبح ضيف أهلي. قال: فعوى جراؤها في بطنها قال: قيل: ما هذا؟ قال: فأوحى الله- عزّ وجلّ- إلى رجل منهم: هذا مثل أمّة تكون من بعدكم يقهر سفهاؤها أحلامها» ) [قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح].

ومنه أيضًا ما أخرجه ابن ماجه عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «لا تعلّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السّفهاء، ولا تخيّروا به المجالس. فمن فعل ذلك فالنّار النّار» ) [ذكر نحوه الشيخ الألباني في «صحيح الجامع» من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح ] .

وأخرج الإمام البخاري في «صحيحه» -واللفظ له- وكذا «مسلم» عن عليّ- رضي الله عنه- أنّه قال:

سمعت النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: «يخرج في آخر الزّمان أقوام أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البريّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة»  .

قال عمير بن حبيب بن خماشة- وكان أدرك النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عند احتلامه. يوصي بنيه فقال:

«بنيَّ إيّاكم ومجالسة السّفهاء؛ فإنّ مجالستهم داء، من يحلم عن السّفيه يسرّ، ومن يجبه يندم، ومن لا يرض بالقليل ممّا يأتي به السّفيه يرض بالكثير» [مجمع الزوائد (8/ 64) وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير ورجاله ثقات] .

وقال الإمام الشّافعيّ- رحمه الله تعالى-:

يخاطبني السّفيه بكلّ قُبح ... فأكره أن أكون له مجيبًا

يزيد سفاهةً فأزيد حلمًا ... كعود زاده الإحراق طيبًا

وقال عمرو بن عليّ :

إذا نطق السّفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السّكوت

سكتّ عن السّفيه فظنّ أنّي ... عييت عن الجواب وما عييت

قال أبو موسى –غفر الله له- :

وإنَّ مما يلازم (السَّفاهة) ولا ينفك عنها –في غالب الأحيان- الطيشُ، وهو خلق سيئٌ كسابقه..

والطيش لغة:

مصدرٌ من قولهم : طاش الشّيء يطيش، وهو مأخوذ من مادّة (ط ي ش) الّتي تدلّ على الخفّة، ومن ذلك طاش السّهم عن الهدف إذا لم يصبه، كأنّه خفّ وطاش وطار، وقيل معناه: عَدَلَ (عن الغرض) ولم يقصد للرّميّة..

وقال اللّيث: الطّيش: خفّة العقل، والوصف من ذلك طائش من قوم طاشة، وطيّاش من قوم طيّاشة. وقال بعضهم: طيش العقل: ذهابه حتّى يجهل صاحبه ما يحاول، وطيش الحلم خفّته، وطيش السّهم : جوره عن سننه، وفي حديث الحساب «فطاشت السّجلّات وثقلت البطاقة» أي خفّت وطارت، وفي حديث عمر بن أبي سلمة : «كانت يدي تطيش في الصّحفة»، معناه: تخفّ وتتناول (الطّعام) من كلّ جانب، وفي حديث ابن شبرمة، وسئل عن السُّكْر فقال: «إذا طاشت رجلاه واختلط كلامه» [انظر مادة : (ط ي ش) في معاجم اللغة].

والطيش اصطلاحًا :

الطّيش مثل السّفه، وهو سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالطّيش، والإيقاع بالمؤذى، والسّرف في العقوبة، وإظهار الجزع من أدنى ضرر، والسّبّ الفاحش –كما تقدم في الكلام على السّفه- .

وفي ذمِّ هذا الخُلق يقول صاحب كتاب «تهذيب الأخلاق» : «وهذا الخلق مستقبح من كلّ أحد ... فإذا ترتّب على الطّيش محرّم كان محرّما، وإذا ترتّب عليه مكروه كان مكروها، وهو على كلّ حال مستقبح وفي كلّ وقت مسترذل، فكم من طائش قول أو فعل أهلك صاحبه وحرمه النّجاة وألقى به في عداد الظّلمة الفسقة»[اهـ بتصرف].

            وختامًا :

            نسأل الله –عزَّ وجلَّ- أن يُجمِّلنا بكريم الأخلاق والفِعال، وأن يُعيذنا من سيئ ما يكون منها إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا

والحمد لله ربِّ العالمين

وكتب:

أبو موسى الأردنيُّ

أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة

يوم السبت لثلاث بقين من جمادى الآخرة

سنة 1432 من الهجرة

الزرقاء-الأردن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق