24/06/2011

..:: المُتشبّع بما لَم يُعطَ ::..


بسم الله الرحمن الرحيم

..:: نَقْدٌ ذَاتِيٌّ ::..

..:: المُتشبّع بما لَم يُعطَ ::..

        الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيِّه وعبده وعلى آله وصحبه ووفده..
        أمَّا بعد:
        لقد عهد الله إلى بني آدم أمانة كبيرة ألا وهي أمانة البيان وأمانة القلم، وتأتي هذه الأمانة العظيمة من عِظم العِلم الذي أوجب الله تعالى على العلماء بيانه، فعلمهم بالقلم وأوجب عليهم بيانه فقال : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}، وأخبر أنَّ أهل الكتاب تَنَكَّبُوا الصراط القويم وصدُّوا عن سبيل الله، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187]، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير –رحمه الله-: « فذمَّ الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أُمروا به من اتِّباع كتاب الله، فعلينا -أيها المسلمون- أن ننتهي عمّا ذمَّهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تَعَلُّم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه »، وهنا أمر ما انفك العلماء يبيّنونه لطلبة العلم بكلمات ذات مدلولات أدبية عميقة ناتجة عن فهم عميق لشريعة الإسلام الحنيفية العفيفة، ومنها نهي المسلم أن يتشبّع بما ليس له من انتحال صفة العلماء أو طلبة العلم، فيدلسَ على من يقرأ ما يكتب في كتاب أو منتدى أو غيره من المنابر المتنوعة التي تفسح المجال لكل أحد أن يكتب وهؤلاء الصنف من الناس أعني المتشبعون بما لم يُعطَوا قال الله تعالى فيهم: « { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا } أي: من القبائح والباطل القولي والفعلي . { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوا { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } أي: بمحل نجوة منه وسلامة، بل قد استحقوه، وسيصيرون إليه، ولهذا قال: { ولهم عذاب أليم } » [ تفسير السعدي ].
        فأي رجل عاقل يرضى لنفسه أن يحل بها هذا الجزاء يوم القيامة، { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }؟
فهذا الجزاء للكَذَبة الذين خانوا أمانة العلم أن يُبيّنوه للناس، أو أن يردوه إلى أهله الذين هم أحق به – هذا إن كانوا من العلماء حقًّا- أمَّا الجهلة الأغمار المتلبسون لباس «المنهج» ادعاءً زائفًا لا حقيقة له، فقد قام العلماء في وجههم قَوْمة واحدة بيَّنوا من خلالها عوار هؤلاء، وبيَّنوا كذلك ما اطووا عليه من الخبث وسوء الطوية، فهذا الشيخ الألباني –رحمه الله- يبين عوار ابن عبد المنّان وما قام به من خيانة أمانة العلم والقلم والتدليس على الناس فألّف «النصيحة»، وهذا الشيخ المعلّمي اليماني –رحمه الله- ينبري كذلك لبيان عوار الكوثري فكتب «التنكيل»، ومن هؤلاء العلماء –الأدباء- أديب فذ لطالما هُضِمَ حقُّه –في نظري- فلم يُعطَ القدر الذي يستحقه من نشر أدبياته والتي فيها يتجلّى الإبداع بأبهى صُوره، إنّه الشيخ الأديب المحقق أبو فهر محمود بن محمد شاكر –رحمه الله- فقد انبرى مدافعًا عن الأدب العربي بكل ما آتاه الله من قوة وفصاحة ورجاحة عقل، فقد ردَّ قديمًا على (قطب) ومن لفَّ لفّه في الجرائد والمجلات المصرية، لمّا طعن في أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم فبين عواره وما في مقالاته من خبال، وكذلك ردَّ على المستشرقين، والمبشرين ممن حاول أن يبث سمومة في عقول أبناء المسلمين، وفي معرض هذا ( النقد الذاتي ) استللت ورقة من ردِّه على لويس عوض (الدكتور) –زعموا- والذي حاول التدليس على قُرّاء جريدة (الأهرام) المصرية فأخذ متلبِّسًا بلباس «المنهج»، يطعن في تراث المسلمين مادحًا علوم الروم واليونان والإغريق، فبيّن الشيخ حجمه وتعالمه، وما هو متشبِّع به مما ليس هو له أهلاً، وفي أثناء كلامه وعباراته الجزلة تنبيه لي ولإخواني من رواد هذا المنتدى المبارك فوسِّعوا صدوركم –بارك الله فيكم- لهذا النقد، والله من وراء القصد.
قال الشيخ –رحمه الله- :
«وإذن، فليس حسنًا، بل شنيعًا أن ينتصب امرؤٌ له بقيةُ عقلٍ، فيقول قائمًا ليخون جَهرةً وعلانيةً أمانة البيان وأمانة القلم، لأنه عندئذٍ إنما يَخِيس بأوثق عهدٍ عهده الله إلى بني آدم، حيث علّمهم البيان وعلّمهم بالقلم. وكُلّ ناطقٍ بلسان أو كاتبٍ بقلم، فإنّما هو معلِّم لمن يتلقى عنه. فإذا احتالَ، وغشّ، وخادع، وكذب، واجترأ على ما لا يُحْسِن، وادّعَى ما لم يكن، وحرَّف الكلم عن مواضعه، وبدّلَ لفظًا بلفظٍ ليُزوِّرَ باطلاً، فَزَوَّقَ وحسّنَ، وأخفى معالم القُبْح فيه بالتدليس، وستر عُواره ودَمامته بالمخرقة والتمويه، [ والمخرقة، احتيال الدجاجلة بالحيل الخفية ]، فقد خرج بفعل ذلك عن أن يكون مُبينًا وكاتبًا، إلى أن يكون دجَّالاً يجعل الصدق طِلاءً لما تعافُ النّفوسُ من كذبه. وخرجَ من أن يكون مُعلّمًا لمن يتلَقَّى عنه، إلى أن يكون نَهَّازًا لغفلات السامعين والقارئين، يريدُ الغدرَ بهم وبعقولهم ليفسدها بآفةٍ من آفاته.
وإنّما هو مخاتِلٌ يتّخذ ثقة المتعلم بمن يظنّ أنه يعلمه، شبكةً وحِبالةً للإيقاع به.
هذا كُلّه شنيع، فإذا جاء وقد أناط إلى اسمه لقبًا يتدلّى كأنه وِسامٌ شاهدٌ مصدِّقٌ لظنّ المتعلم فيه، فذلك من فعله أشنع، فإذا أَلبسَ مكرهُ بالقارئ قِناعًا يُقال له « المنهج »، يبتغي بذلك أنْ يأتيه من مَأْمَنِه، فلا تخامره الهواجس والشكوك فيما يقال عنه، فذلكَ أَوغلُ في الشّناعة، فإذا صالَ على المتعلم صولة الشرلتان المدرّب، ( والشرلتان، معروف معناه في كلام الأعاجم * ) فتَذاءبَ عليه ( أي فعل فِعْل الذئب في المهاجمة )، فأتاه عن يمين وشمالٍ، فاستكثر بذكر أسماء العلماء والكتب، ليتاح له أن يلقي إليه أقوالاً مؤكدة إلقاء الحقائق المسلَّمة المفروغ من صدقها وصحتها، فذلك أخبث الشناعة، وهو بالقارئ المخدوع أضَرُّ من الوباء المتفشّي، ومن الطاعون المُسْتَعِر، فإذا كان، على ذلك كُلِّه، ممن ائْتُمِنَ على كرسيّ أستاذيةٍ، أو على صحيفة سيّارة = ( قلتُ: أو في منتدى يكتب فيه ) = في الناس عالمِهم ومتعلمِهم وشاديهم، فارتكب هذا الطريق علانية وجهرةً وبلا حَياءٍ يَحْجِزه، أو يردعُه، أو يَكُفّ من غَرْب تَحَرُّقِه على نشر ما يطوي من الخديعة ( وغرب كل شيءٍ، حِدَّته ومضاؤه )، فقد جمع الخمسة المهلكة، ليتجرَّعها آلافٌ آمنون غافلون؛ نَفَتْ ثقتُهم به ريبةَ قلوبهم بما يكتب ». « أباطيل وأسمار »: (71-72).
هذا هو رأي الشيخ محمود شاكر فيمن يخون أمانة العلم والقلم، يريد بذلك إنفاق بضاعته –الكاسدة- على من يجهل حاله، فكيف إذا كانت البضاعة ليست له! لا شكّ أنّ الأمر أشدّ وأشنع، فنسأل الله أن يوفقنا للتأدب بأدب العلم وأن يعصمنا من حب الظهور الذي يقصم الظهور، وأن ييسر لنا إخوة نَصَحة يُعينوننا على الخير إذا عملناه، ويأخذون على أيدينا إنِ الشَّر اقترفناه، فالمسلم مرآة أخيه، والنّقد البنّاء يؤتي ثماره إنْ كان الناقد ومن يَنقُده على قلب صافٍ مخلصٍ محب لا غِلَّ فيه على أحد، أمّا إن مُلِئَ القلب غِلًّا وحِقدًا، فستأخذ النصيحة منه كل مأخذ إلى الشر والظّنون الفاسدة، أعاذَ الله إخوتنا منها.

والله أعلم.

وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا
وكتب:
أبو موسى أحمد الغرايبة الأردني
19/ ربيع الأول / 1432 هـ
الزرقاء – الأردن
والحمد لله ربِّ العالمين



ــــــــــــــــ

 *  الشرلتان عند الأعاجم، هو المشعوذ الذي يقف على لَقَم الطريق ( والَّلقَم، بفتح اللام والقاف: وسط الطريق أو رأسه )، يحسِّن بضاعته لتنفُقَ عند الناس، ويزيِّن عُوَارها وفسادها بألفاظ مفخمةٍ محبَّرة، تميلُ إليها أسماع العامَّة، وتأخذهم من غفلاتهم، فيكونون أسرع استجابة للفظه.«أباطيل وأسمار».




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق