30/03/2014

نظرات في تربية الفلذات من البنين والبنات (2) (التربية على معالي الأمور، والنهي عن توافهها وسفسافها)

( 2 )
نظرات في تربية الفلذات من البنين والبنات
(التربية على معالي الأمور، والنهي عن توافهها وسفسافها)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
أمَّا بعد:
فهذه الوقفة الثانية في تربية الأولاد، وتدور حول (تربية الأولاد على معالي الأمور، والنهي عن توافهها وسفسافها)!
كان الرعيل الأول من المسلمين أهل عزٍّ وإباء، وكانوا أهل مروءة ووفاء، فلم يكونوا يقبلون بوضيع الأمور ولا بتوافهها، بل كانوا يرومون المجد والعزَّ، ويَسمون للعلياء.. نعم! هكذا كانوا يربُّون أولادهم على هذه الأخلاق الحميدة التي تنهض بالأمم، وتسمو بالهمم، وقد ضرب لنا التاريخ أمثلَة يقف الكاتب مذهولًا لا يسيل له مِداد على ورقٍ لعجز الكلمات –مهما بلغت فصاحة وبلاغة- أن تصف الحال الذي كان، فقد أخرج الإمام البخاري –رحمه الله- في «صحيحه» عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أنَّه قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من ينظر ما صنع أبو جهل؟». فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد.
ابنا عفراء وما أدراك ما ابنا عفراء؟!
يذكر أصحاب السير تفصيل قصَّة مقتل أبي جهل والتي ذكر أصلها البخاري –رحمه الله- في «صحيحه»، فيروون عن عبدالرحمن بن عوف –رضي الله عنه- أنه قال: «إنني لفي الصَّف يوم بدرٍ، إذ الْتَفَتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فتيانِ حديثَا السِّنِّ، فكأنِّي لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا مِن صاحبه: يا عمّ، أرني أبا جهلٍ، فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ فقال: عاهدتُ الله إنْ رأيته أن أقتلَه أو أموتَ دونَه، وقال لي الآخر سِرًّا مِن صاحبه مِثله. قال: فما سرَّني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت إليهما، فشدَّا عليه مثل الصَّقرين؛ فظرباه حتى بَرَد!!
الله أكبر!
مَن وراء هذه الهمَّة العالية التي تلامس الثُّريا، ومَن زرع في هذين الحَدثين هذه الشجاعة والاستبسال؟!
إنَّه المُربي يا أيُّها المسلم.. نعم المربِّي الذي وضع أمام ناظريه هدفًا يريد أن يصل إليه، فكان منه أن زرع هذه الصفات في هذين الغلامين حتى اغتبط بهما عبدالرحمن بن عوف –رضي الله عنه- وفضَّلهما على رجلين مكانهما!
ومثال آخر يبيِّن عظيم أثر التربية على المعالي لدى الأولاد، وهو ما كان من أبناء الصحابة الصِّغار يوم أُحد، لمَّا ردَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- مَن ردَّ منهم لصغر سنِّه رحمة بهم صلوات ربي وسلامه عليه، فيقوم أبو رافع –رضي الله عنه- فيشفع لولده أن يجيزه النبي –صلى الله عليه وسلم- فيقول: يا رسول الله إنَّ ولدي رافع رامٍ، فيجيزه النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتقع هذه الإجازة من النبي –صلى الله عليه وسلم- على سمع سمرة بن جندب –رضي الله عنه- فيتقدم ويقول بعد أن ردَّه النبي –صلى الله عليه وسلم-: لقد أجزت رافعًا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. فيتصارعان فيصرعُ سمرة رافعًا فيجيزه النبي –صلى الله عليه وسلم-.
همم كالجبال لا ترضى بالدُّون ولا تركن إلى السُّفل، بل تصارع المعالي لتصل إلى مبتغاها.
ولمَّا كنَّا نصبوا إلى تربية لأبنائنا كهذه التربية الإيمانية العظيمة؛ كان علينا أن نعرف أن هذا النوع من التربية إنَّما قام على أمور منها:
·       استشعار الواجبات تجاه هذا الدِّين مما يوجب التعاون بين أطياف المجتمع في شتى المناحي الحياتية، متمثِّلين قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
·       تربية النشء على المسارعة إلى الخير، وتعويدهم الإيثار وتقديم الغير على النفس، والمسابقة إلى معالي الأمور كما فعل ابنا عفراء؛ فإنَّك تجد أن كلًّا منهما أخفى عن أخيه ما ينوي فعله ليكون له قدم السبق في نصرة الدين.
·       وجود نماذج في المجتمع مثل هذه النماذج، يرفع من معنويات الأمة ويجعلها تحتذي بها لإرجاع سابق مجدها وتليد عزِّها، فإن التعليم والتربية بالقدوة مِن أقوى وسائل التربية.
ولكن لمَّا سِيْمَت الأمَّة خُطَّة ضَيْمٍٍ، تكالبت الأعداء عليها، وعلى أهم باب من أبواب عزَّتها وسؤددها، فزيَّن الأعداء للناس أمورًا تساهم في هدم المجتمع من قواعده، ومنها:
·       قصْرُ النَّفس على الشهوات.
·       جعل الأمَّة تركن إلى الصَّغار.
·       شَغل النشء عن الغايات التي تتطلع إليها.
·       رضاها بالدُّون.
·       تقاعسها عن أسباب المعالي.
·       تعطيل طاقاتها الكبيرة.
·       صرف أبناء الأمَّة عن غاياتهم السامية النبيلة.
كان على المربِّين أن يشمِّروا عن ساعد الجد لإخراج جيل لا يرى سفاسف الأمور طريقًا له في حياته، ولا يرى سوى الأهداف النبيلة مقصدًا له في حياته، ليرتفع بأمَّته إلى المعالي، ويرجع لها مجدها الغابر، يوم أن كانت تخرج أمثال ابني عفراء وسَمُرةَ وغيرهم –رضي الله عن الجميع-.
وعلى المربِّين أن يُجنِّبوا أولادهم ما يوقعهم في مهاوي الرَّدى، وأن يحاولوا رفعهم عن الركون إلى الشهوات، وأن يستشعروا الأمانة المُلقاة على عواتقهم والمستقبل الذي يستشرفونه لنشر رسالة الإسلام السمحة المُبينة، وغرس هذه الأمور منذ الصغر، ليعلم النشء أنه يجب أن يتميَّز عن أهل الإلحاد والكفر، في كل أمور حياته الظاهرة والباطنة، استشعارًا منه أنه جزء من أمَّة عظيمة لها ارتباط عميق بأصل الرسالة المُحَمَّديَّة التي أضاء نورها جنبات الدنيا بما حملته من عقيدة التوحيد ونبذ عبادة ما سوى الله من صنم أو وثن أو غيره.
وعليك أيُّها المُربِّي أن تزرع في نفس ولدك أنَّه مرتبط بحبل بينه وبين ربِّه لا مثيل له في الأمم الأخرى ألا وهو كتاب الله –عزَّ وجل- الذي فيه حياة القلوب وحياة الأبدان وهو حبل الله المتين، وقرآنه العظيم، الذي ما تمسك به أحد إلا عزَّ وارتفع، وما تخلَّى عنه أحد إلَّا ذلَّ وَوُضِعَ.
وألخص هنا أهم ما على المربي أن يغرسه في قلوب النشء فأقول إن على الولد أن يستشعر أمورًا منها:
·       أن عليه إعداد نفسه لأن يكون نصر الأمَّة على أعداءها على يديه، كما نُصر على أيدي الصحابة –رضي الله عنهم-، ومِن بعدهم التَّابعون كأحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم ممن نصر الله بهم الدِّين وأعلى بسببهم راية التوحيد السُّنَّة، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، ويقول: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾.
·       وأن عليه أن يعلم أنَّ الأمَّة اليوم بحاجة إلى مئات العلماء وطلَّاب العلم ليعلِّموا الأمَّة أمر دينها، وأنها بحاجة إلى الرجال الصالحين الذين يتَّصفون بصفات الإسلام وأخلاقه من صدق في القول والعمل، وأمانة في البيع والشراء، وعدل في الحكم والقضاء، لينتظم سلك المجتمع على أحسن هيئة وخير طريقة، فتنهض الأمَّة من جديد، واحرص على أن تكون أنت السبب في هذا لتفوز في الدنيا والآخرة.
·       وأن عليه أن يعلم أنَّه مهما كان عمله أو تخصصه في هذا المجتمع فإن كان أخلص النيَّة فيه وابتغى وجه الله فيه ونصيحة الأمة والعمل على رفع شأنها وحصول عزَّتها، فإنه يكون من الناصحين المُصلحين الذين نصحوا لله ولرسوله ولكتابه ولعامَّة المسلمين وأئمَّتهم، وهذا غاية في الصلاح والإصلاح الذي تنهض به الأمم بعد كبوتها.
·       وأن عليه أن يعلم أن حمل الأمانة من أصعب الأمور فقد أخبر ربُّنا تبارك وتعالى عن عِظَمها فقال في محكم كتابه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، ومن أعظم الأمانات أمانة تبليغ دين الله للناس وتعليمهم إيَّاه وحثِّهم على تطبيقه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن هذا من أوجب الواجبات على جميع أفراد الأمَّة ذكورًا وإناثًا.
·       وأن عليه أن يختار الزوجة الصالحة صاحبة الدِّين والعفاف ليقوم معها بإنجاب جيل مسلم واعٍ للأخطار التي تحدق بأمَّته فيعمل معها على تربية الجيل التربية الإيمانية الصحيحة بعيدًا عن الغلو أو التقصير، وبعيدًا عن الإفراط والتفريط.
هذا ما جرى به القلم، والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه ومن دلَّ عليه، وأن يعيننا على تربية أبنائنا التربية الشرعية الصحيحة القائمة على كتاب الله وسنَّة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وفهم سلف الأمَّة، وأن يجعل هذا خالصًا لوجهه لا رياء فيه ولا سُمعة؛ إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
وكتب ليلة الإثنين، الثلاثين من شهر جمادى الأول لعام خمسة وثلاثين وأربعمئة وألف من الهجرة الشريفة: الراجي عفو ربِّه الغفور، أبو موسى أحمد بن عيَّاش بن موسى الغرايبة الأردنيِّ، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه.. آمين.
وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله ربِّ العالمين.
الزرقاء – الأردن

صانه الله من الشرور والفتن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

طورُ التَّحول والتحوُّر الإخواني الجديد بعد قرب انهيار الجماعة والانتقال إلى أرضية جديدة وخصبة لزرع الأفكار الخارجية المتأصلة في فكر الجماعة! (التمهيد)

  (1) طورُ التَّحول والتحوُّر الإخواني الجديد بعد قرب انهيار الجماعة والانتقال إلى أرضية جديدة وخصبة لزرع الأفكار الخارجية المتأصلة في فكر...